دولة المليشيا أو مليشيا الدولة
في مقابل نكوص الفكر، ونكوص الحداثة والتنوير، ونكوص الثورة وعملية التغيير والإصلاحات الواجبة، نواجه، اليوم، نكوص الدول عن أدوارها المفترضة، بل تراجعها وتحجيمها، حتى باتت السيطرة فيها للمجموعات المليشياوية، في وقت يبرز فيه تغول مليشياوي يطمح للحلول محل الدولة، لا بل تهديمها لإقامة دولة المليشيا البديلة، دولة بدائية، لا أثر للحضارة والعمران فيها، دولة ميتة، كونها تكراراً واجتراراً لدولة ماضوية، اندثرت باندثار الفاعلين الذين قاموا بتأسيسها على رمل اندثار سابق، منه ما سجله التاريخ، ومنه ما لم يستحق أن يكون في سجلاته.
الدولة الإمبراطورية كمثيلاتها من الدول المتعسكرة، أي التي هيمنت نخبتها العسكرية على كامل مؤسسات الدولة، حتى الاقتصاد والتجارة، كما في الجزائر ومصر أخيراً، تبقى تمتلك صفات ومقومات الدول، حتى تبدأ عملية النكوص التاريخي، بتهديمها على أيدي أبناء بُناتها أو أحفادهم، ممن ساهموا تدريجيا في انتقالها من ضفة الدولة/الأمة إلى ضفاف الدولة البدائية وإوالياتها المتخلفة. فالدولة، ونعني بها هنا دولة الأمة، لا يمكنها أن تقوم وتستمر، إلا بالتزامها القوانين، والنزاهة العالية في تطبيقها وفق المعايير الإنسانية، وحماية وحراسة الحقوق المواطنية. وبمفاهيم عصرنا، التزام الديمقراطية نهجاً ومنهجاً، والعلمانية المناهضة لتمذهبات السياسات وتطبيقاتها الفئوية وتطييفها.
تسقط الإمبراطوريات، حين تبدأ الأطراف بنهشها، أو حين يبدأ الجهاز السياسي فقدان سيطرته على مؤسسات الدولة، أو حين تتحول الدولة إلى دولة فاشلة، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، بفعل البرامج والسياسات الخاطئة، لتسجل سقوطها الذريع في مواجهة دول الجوار أو الدول الخارجية.
وفق مفاهيمنا المعاصرة، ما كان للإمبراطوريات أن تتساقط أو تنهار، إلا لأنها تحولت إلى دول فئوية أو عنصرية، هيمنت على السلطة فيها مليشيات هذه النخبة أو تلك من نخب الإمبراطورية، وأرادت إخضاع البقية لهيمنتها. هنا، تتحول الدولة الإمبراطورية إلى بقايا دولة النخبة الصاعدة، دولة المليشيا، أو الدولة المشرفة على تسليح واحتضان قوى وكيلة، كمليشيات أخرى في دول مجاورة أو بعيدة، تحاول، من خلالها، استعادة نزوعها الإمبراطوري، ولو في شروط وظروف وزمن آخر، على ما تحاوله، اليوم، إيران "المعاصرة"، إيران التعصب المذهبي والتشيّع السياسي، النازع إلى استغلال أبناء الطائفة لخدمة مشروعيها، المحلي والإقليمي، من دون أن تخدم هؤلاء في بلدانهم، أو تساعد على استقرار هذه البلدان، بقدر ما تسعى إلى تفجيرها، وزرع بذور فتنة طائفية، وحروب أهلية متناسلة ومتواصلة داخل هذه البلدان وخارجها.
غابت إيران الدولة/الأمة عن مسرح الدول المعاصرة، منذ زمن طويل، بعد أن بادت الإمبراطورية الفارسية، جراء صراعات التفكك داخلها، إثر صعود إمبراطوريات أخرى، أحاطت بها، إلى أن كانت الدولة الشاهنشاهية واحدة من "الممالك الوسيطة" بين الدولة الإمبراطورية والدولة/الأمة، إلى أن شكلت "الدولة الدينية" واحدة من أدوات النكوص والثورة المضادة، وها هي توزع زرعها، شمالاً ويميناً، على قوى مضادة للثورة في بلدانها، لجهة ما تشجع عليه من نزوع مذهبي، وإنماءً لعصبيات طوائفية، تريد منها جميعا أن تصب في مشروعها الإقليمي الراهن، والإمبراطوري على المدى الأبعد.
وهنا، من الضرورة القصوى تبيان أن ما تسعى إليه إيران النزوع الإمبراطوري المغلف، اليوم، بسوليفان التمذهب، لا يرقى إلى مستوى "النزاهة الدينية"، أو "السوية الثورية" التي تدعيها، وتزعمها لذاتها ولحلفائها من "مليشيات الدول"، أو دول المليشيا؛ على ما تطمح من تحويل العراق وسورية واليمن ولبنان والبحرين، وغيرها غداً، إلى مجالها الحيوي الذي تمارس، من خلاله، تحقيق أحلامها وأطماعها الإقليمية، وتقاسم النفوذ والهيمنة مع إمبراطورية أميركية ضعفت مالياً. وبالتالي، شهدت المزيد من ضعف نفوذها الإقليمي والدولي، حتى باتت أكثر احتياجاً لمن يساعدها بالاحتفاظ بنزوعها الإمبراطوري للهيمنة في منطقة استراتيجية مهمة، حيث منابع النفط ووجود إسرائيل في محيط من المفترض أنه معاد لها.
وهنا، يمكن الإشارة إلى أن ما يجري ليس بالضرورة عبر اتفاقات ثنائية مضمرة، أو معلنة، بقدر ما يمكننا من القول إن تنافساً يحكم العلاقة بين النزوع الإمبراطوري الإيراني، ومحاولة استعادة قوة الإمبراطورية الأميركية، تنافس مثل هذا، وإن يكن غير معلن حتى اللحظة، فهو من النوع الذي لا يمكن الإعلان عنه صراحة، نظراً لما يجري من مفاوضات بين الأطراف المعنية على البرنامج النووي الإيراني، ما يجعل التنافس الإقليمي، أو الدولي، عبر مسألة تقاسم النفوذ، أو حتى إمكانية الصدام أو التصادم، مضمراً ومؤجلا إلى حين.
مشكلتنا الرئيسية، بل المصيرية في هذه المنطقة من العالم، أننا بتنا نصارع البربرية والتغول الوحشي لقوى الماضي المندثر، وهي تحاول استعادة ما هو أكثر اندثارا وموتا سقيما، وإن لم نستعد، نحن أبناء الحياة والإيمان بالمستقبل، قدرتنا على استعادة ثقافتنا الحداثية المتنورة من براثن النكوص وقوى التفتيت والتجزئة، وإيقاف الأخيرة عند حدها، وإزاحتها وزحزحتها من طريق المستقبل، فإن "الدواعش" من برابرة التمذهب التديني الإسلاموي، سيبقون يقفون حجر عثرة، يسدون أمامنا كل دروب المستقبل والحداثة والتنوير والحرية.
المعركة، إذن، بيننا، نحن الذين ننتسب إلى جوهر الفكر والثقافة والحياة والمستقبل، وأولئك البرابرة الذين ما فتئوا يتوافدون من أقبية الماضي وسلفياته التي اندثرت أيدولوجياتها العقيمة والسقيمة، حتى لم يبق لهم ما يزاحموننا عليه سوى الحياة، يريدون قطفها في سياق عمليات انتحاراتهم المتناسلة من أوهام واستيهامات "حواري الجنة" و"نكاح الجهاد" و"سبي النساء"؛ كل هذا تحت راية ما تسمى "عودة الخلافة" وتقديس خليفتها، وهو يعصم جنود دولته كملائكة مقدسين.
على الجانب الآخر، هناك أنواع من الشطط المبالغ فيه، من قبيل تقديس المرجعيات البشرية، وحياكة حكايا وسرايا وقرايا عديدة، عن "عودة المهدي"، و"عودة المسيح"، ومواعيد "القيامات" التي تأتي ولا تأتي، وإلى ما هنالك من "محفزات" و"مكافآت"، لا يعتقد بها سوى السذج والبسطاء الذين لا يقيمون وزناً، ولو بوزن الريشة للعقل، حيث إن الرمز الديني، كما هو متعارف عليه تاريخيا، وحتى ما قبل التاريخ، لم يكن ليتنزّل إلى مستوى الرغبات والأماني والغرائز الفردية أو الجماعية، والا تحوّل كل "فعل إيماني" إلى سلوك وحشي فاحش، في متطلباته الثاوية داخل النفس الأمارة بالسوء.
هكذا تتحول الأصوليات المتعنصرة قومويا، عبر توظيفها الدين وأتباعه، لخدمة تعنصرها القوموي، في عصر يشهد انكشاف "أيقونات مقدسة" عديدة، سبق وأن مترست خلفها كل العصبيات الشعوبية، وبكل ما جادت وتجود به من انبعاث المليشيات الوكيلة عنصرية الطابع، وانبثاقها من داخل الدول، أو تأسيسها من خارج الدولة، فلكي تهيمن تلك المجاميع المليشياوية الوكيلة على الدولة، مسلّمة قيادها للدولة الساعية إلى إعادة تنظيم صفوف إمبراطوريتها، وبعث أمجاد شعوبيتها المتعنصرة قومويا. هكذا هي دولة المليشيا، أو مليشيا الدولة، كما جسدته الحركة الصهيونية، ومن قبلها الحركة النازية والفاشية، وما نراه يتجسد أمام أعيننا، اليوم، من حركات مليشياوية وكيلة لشعوبية العصبيات المتمذهبة.