دور إسرائيلي جديد
لعل الحرب الدائرة في غزة هي الحرب الأولى التي يشنها العدو الصهيوني، بموافقةٍ مباشرة من أطراف عربيةٍ، وصمت مريب من أطراف أخرى. قدّر العدو أن الحصار الذي تعرضت له غزة أضعفها وأنهكها، وأن تدمير الأنفاق، الرئة التي تنفست منها غزة في السابق، والإغلاق المستمر لمعبر رفح قد قطع عنها آخر شرايين الحياة. وأن ثمة مناخاً يسمح له بالانقضاض على غزة، مستفيداً من ضعفها ومن حصارها، ومن تواطؤ دولٍ بعينها، رأت أن القضاء على المقاومة في غزة جزء من المعركة الداخلية التي تشنها ضد خصومها، والتي اشتدت واستمرت بعد الانقلاب في مصر.
في ظل هذا المناخ، بدأت دولة الكيان الصهيوني، وانطلاقاً من الحرب في غزة، تسعى إلى ترسيخ دورها الجديد في المنطقة، طرفاً رئيساً في المحاور التي تتشكل.. في سعي منه إلى أن يكون جزءاً من صراعات المنطقة، وتوازناتها وتحالفاتها، بدلاً من صورته القديمة، شرطياً زرعه الغرب في خاصرتها، إثر وعد بلفور واتفاق سايكس بيكو، يتصرف لحماية مصالحه، وتهديد خصومه، ويمنع تطور المنطقة ووحدتها.
خلال حرب الخليج الأولى، انهار دور الشرطي الإسرائيلي. لم تعد إسرائيل صالحةً لهذا الدور، بل أضحت عبئاً على حلفائها. اضطرت الولايات المتحدة إلى التدخل العسكري المباشر بقواتها وعدّتها وعتادها. طعّمت قواتها بوحدات عربية، لكنها لم تستطع أن تستخدم الجيش الإسرائيلي، ولا حتى حشدت قواتها في مناطقه، بل ومنعته من الرد على الصواريخ العراقية التي سقطت على مدنه، وأرسلت له وحدات أميركية لحماية أجوائه. ولم يفلح رئيس الوزراء، إسحق شامير، في ايجاد موطئ قدم له في الحرب. قيل له بلهجة حازمة: ابق مكانك ولا تتدخل. اكتفت إسرائيل بعد الصواريخ التي تسقط، ولم تستطع أن تطلق طلقة واحدة. تكرر ذلك لدى احتلال العراق، لم تشهد المعركة أي مساهمة إسرائيلية مباشرة.
في زمن الصواريخ العابرة للقارات، والطائرات التي تتزود بالوقود في الجو، والأساطيل التي تمخر في البحار، والاتصالات والتجسس والمراقبة عبر الأقمار الصناعية، انتهت مهمة الشرطي الإسرائيلي، بل أصبح عبئاً على حلفائه. ولعل هذا ما دفع هنري كيسنجر إلى التحذير من أن أيام إسرائيل باتت معدودة، وقالت بعض أوساطه إنه حددها ببضع سنوات. ونحن العرب من ألقى لدولة الاحتلال طوق نجاة عبر مبادرات واتفاقات السلام، ومنحناها بضع سنوات تسترد بها أنفاسها. لتحاول إيجاد موقع جديد لها في خارطة الشرق الأوسط، ولتكون جزءاً من نسيجه. وعدها الرئيس محمود عباس، في مؤتمر وزراء خارجية الدول الإسلامية أخيراً، بأن يفتح أمامها أبواب الدول العربية والإسلامية، عند شروعها في السلام، لكنها، في حقيقة الأمر، لا تريد الولوج من هذا الباب. إنها تريد الاستمرار في مشروعها الاستعماري الإحلالي الذي سينتهي بإحلال اليهود مكان العرب في كل فلسطين.
مع تراجع دور الدول الكبرى، وانتهاء نظام القطب الواحد، وازدياد تأثير المحاور الإقليمية، فإن الولوج من بوابة الانقسامات العربية، وإثارة الخلافات المذهبية والطائفية، شكل ذلك كله مدخلاً مهماً لدور جديد لإسرائيل، تستعيد فيه مبررات بقائها، ويتم ذلك عبر التحالف مع الديكتاتوريات في العالم العربي ضد خصومهم وشعوبهم، في محاولة لرسم خارطة مختلفة للمنطقة العربية بأسرها، تسعى إسرائيل فيها إلى بناء محور تكون فيه حجر الرحى ومركز القرار، ولعل العدوان على غزة كان بداية تطبيقاته العملية.
شهد التاريخ أمثلة مشابهة، فكم من تحالفٍ تم بين أمراء مسلمين مع قادة الحملات الصليبية، في وجه نور الدين زنكي وصلاح الدين الأيوبي؟ وعند فشل الحملات الصليبية، حاول من تبقى منهم اعتبار أنفسهم إمارة مشرقية، بعدما فقدوا الدعم الغربي المتواصل. بضع سنوات مرت، ولفظت بلادنا كل ما هو غريب عن نسيجها. فهل تكون نهاية الحرب في غزة، وانتصار المقاومة فيها، بداية تفكك المحور العربي الصهيوني وانهياره، وإعلاناً لفشل التقسيم الطائفي والتحريض المذهبي، وإعادة البوصلة نحو وجهتها الأولى، نحو القدس وفلسطين، معركة الأمة كلها بكل قواها، كما كانت بداية الحرب في غزة أولى تطبيقاته العلنية.