"التقينا، أنا وجاك دريدا، في باريس في كانون الأول/ ديسمبر من سنة 1974، تحديداً في مقهى بساحة سان سولبيس. أهداني مؤلفه "دق الناقوس" الذي كان قد صدر لتوّه. وأنا بدوري كنت قد أرسلت له قبل لقائنا هذا عبر البريد مؤلفين؛ "سفر الدم" و"الحمى البيضاء"..".
بهذه الكلمات، استهل عبد الكبير الخطيبي مؤلفه "جاك دريدا، في حقيقة الأمر" (2007)؛ أي سنتين قبل رحيل الخطيبي. يضيف في المقدمة: "منذ تلك الفترة وإلى غاية وفاته في أكتوبر/تشرين الأول من سنة 2004 أسّسنا، بشكل أو بآخر، علاقة متواصلة. علاقة يسودها الود والوفاء، مثل نقطة تتأسس عليها حياتنا. أصدقاء يعيشون عن بعد. يعيش هو قرب باريس وأنا بالقرب من الرباط".
يمكن أن ندرج هذا المؤلَّف ضمن ما يسمّى بالصداقة الفكرية القائمة على مبدأ القبول بالاختلاف والمحبة والجدال المثمر والحجاج البنّاء، وأيضاً ضمن ما يصطلح عليه برد الجميل، ولكن في إطار عالٍ من المقارعة الفكرية المتميزة والتواصل المعرفي.
في إطار مبدأ رد الجميل هذا، سبق لـ دريدا أن أصدر مؤلَّفاً في 1996 تحت عنوان: "أحادية لغة الآخر"، وهو عمل أتى في شكل سجال فكري غير مباشر مع الخطيبي، حيث يرتكز أساساً على حيثيات مشاركتهما معاً في أحد الملتقيات حول موضوع الآخر من منظور اللغة وإشكالية الهوية.
عاد، إذن، دريدا ليتذكّر هذا الملتقى، وليركّز أيضاً اهتمامه على عمل للمفكّر المغربي صادر عام 1983 تحت عنوان: "حب مزدوج اللغة" والذي يتأسّس حول مفهوم الخطيبي الخاص للغة.
في أحد حواراته، صرّح دريدا: "الخطيبي نموذج للمثقف العربي الذي يجمع بين التقاليد والمعاصرة. إنه جزء من ظاهرة امتلاك اللغات العديدة والثقافات العديدة. وعندما يستطيع المثقف أن يعطي للجانبين، فعمله آنذاك يصبح ثميناً. ليس هناك محو لهويته ولا اندماج في ثقافة الآخر. أعتقد أن هذا النمط من المثقف هو المحرّك".
من جهته، ما فتئ الخطيبي يعبر عن إعجابه بفكر دريدا، وبتأثره العميق بمناهجه النقدية، خصوصاً مفهوم التفكيك الذي سيستعمله الخطيبي من أجل ابتكار منهج مختلف ورصين هو "النقد المزدوج"، الذي مكّنه ليس فقط من نقد الفكر الغربي، بل ومن نقد الفكر الميتافيزيقي العربي والإسلامي.
ضم الخطيبي في مؤلفه المخصّص لتوجيه التحية إلى صديقه أربعة نصوص؛ اثنان منهم سبق أن ألقيا بحضور دريدا. يقول: "الصداقة الفكرية لا تنقضي بموت صديق. على العكس من ذلك تستمر وتتناسخ بشكل متفرّد من خلال التأبين وأيضاً عبر محنة طرد الأرواح الشريرة".
اقرأ أيضاً: ليس فقط كاتباً يتعذّر تجنّبه