استمع إلى الملخص
- الكتاب يستهدف جمهورًا أميركيًا غارقًا في أيديولوجية البياض، ويقترح تبني سياسة تقدير جديدة للمجموعات المنبوذة، مما يسهم في إصلاح الديمقراطية المتدهورة عبر حوار بناء.
- تؤكد لامونت على تغيير الثقافة السائدة واعتماد سرديات جديدة، مشيرة إلى انتخاب أوباما كأول رئيس أفريقي الأصل كمثال ملهم يعزز الأمل واحترام الذات.
تدعو عالمةُ الاجتماع الكندية ميشيل لامونت قارئها إلى التحرّر من عنصريّته واستعلائه الطبقي والقومي والمذهبي والعرقي والوظيفي وإلى تغيير نظرته إلى الآخر المهمش والمُضطهد والمختلف، ورؤيته في ضوءٍ جديد، وتقديره واحترامه وفتح أبواب الجماعة له في إطار الاختلاف الخلّاق. وتقول "إنّه من أجل فعل ذلك يجب إحداث ثورة ضد الثقافة القائمة على المسبقات الطبقية والجنسية والعرقية والدينية والسياسية، الأمر الذي يقتضي تغيير السرديات التي نشأ عليها الناس وتوارثوها داخل مجتمعاتهم".
في كتابها الصادر حديثاً عن "دار سيمون وشوستر" بعنوان "رؤية الآخرين" وعنوانه الفرعي "كيف يعمل التقدير، وكيف يمكن أن يشفي عالَماً منقسماً" ترى لامونت أن رؤية الآخر المختلف والاعتراف بوجوده وتقديره ضرورة للتخلّص من القوالب النيوليبرالية التي شجعت على أنماط حياة قائمة على النجاح المادي والتعليمي والمهني. ذلك أن الآخر يُنظر إليه في معظم الثقافات نظرة مشبوهة تخلو من التقدير والاحترام، وغالباً ما يُصنف كغريب ومتطفّل وسارق ومجرم ولص ومنافس ومسؤول عن دمار اقتصاد البلدان، وغير معترف به، ومرفوض، وغير مرغوب به. وهو منافس وسارق للوظائف وغريب، و"إرهابي"، و"يأكل قططنا وكلابنا"، وما لا ينتهي من التسميات والقوالب والتصنيفات التي يصنّعها الوعي السائد ضمن معادلة نحن الحقيقة والآخر هو الزيف، نحن الخير وهو الشر، نحن الحضارة وهو البربرية.
ألّفت عالمة اجتماع "جامعة برينستون" الكتاب لجمهور أميركي غارق حتّى عنقه في أيديولوجية البياض والإقصاء والإلغاء والعنصرية وقلّة الاحترام للآخر. هذا البياض المُؤدلج والقائم على العنف والتدين والقومية البيضاء يمنع رؤية الآخر كطرف يُسهم في بناء المجتمع، ويجرّده من الاحترام؛ الرأسمال الذي تعدّه عالمة الاجتماع مطلوباً وأعلى قيمة أحياناً من الرقم المكتوب على الشيك، الذي يتم استلامه في منتصف الشهر، أو في نهايته.
تُخاطِب جمهوراً أميركياً غارقاً في أيديولوجية الإلغاء
الكتاب بيانٌ ضد أيديولوجيا البياض التي يتمّ تعميمها في الولايات المتحدة وأوروبا. وبما أنَّ الولايات المتحدة ساحة كبرى للتعدّد والانقسام الطبقي والفروق الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وتجلّيات العنصرية والقومية البيضاء، فقد بنت المؤلّفة على طبيعة النظرة السائدة إلى الآخر، سواء كان أسود أو من السكان الأصليين أو لاتينياً أو مختلفاً في تركيبة هويته الشخصية، أو من طبقة أدنى، وأجرت عدداً كبيراً من المقابلات التي تعكس رأي الشارع الأميركي بمختلف مستوياته الثقافية، منطلقة من فرضية مفادها أنَّ التفاوت جاء مع النيوليبرالية التي سوّقت سيناريوهات وصوراً ضيّقة عما يجب أن تكون عليه الذات الفردية الناجحة والمثالية.
من هذا المنظار يُقيّم الناسُ وتُحدّد قيمتهم وتحدد هوياتهم كأفراد، وتصير صورة المرء في العدسة النيوليبرالية شخصاً معتمداً على ذاته، ناجحاً مالياً، وحاصلاً على شهادة جامعيه ولديه وظيفة مهمة ومستهلكاً جيداً.
لامونت تدعو إلى الخروج من إطار هذه الصور الاستهلاكية عن الذات التي تُروّج لها النيوليبرالية الأميركية والبحث عن طرق بديلة من أجل توسيع المنظار ورؤية الناس في سياق حياتهم اليومية كعمال عاديين ومهاجرين ومكافحين يلعبون دوراً أساسياً في بناء المجتمع، وهدم الصورة المُسوّقة للفرد كما هو مرسوم نيوليبرالياً، لأن هذا يمنحهم قيمة وتقديراً؛ الأمر الذي ينمّي لديهم حسّ الكرامة ويجعلهم يشعرون بأنهم "مرئيون" ومواطنون أساسيون خارج أطر التمييز.
تُشدّد لامونت على ضرورة تبنّي أو إطلاق سياسة تقدير واحترام وإبداع سرديات جديدة تمكّن المجموعات المنبوذة، والتي لا تشعر بأنّها محترمة ومعترف بها. وترى أنه يجب أن نحاول فهم الناس الذين يختلفون عنا، والذين لا نتفق معهم في الرأي، أو في التوجهات والميول. فعلى سبيل المثال إن أشخاصاً ينتمون إلى الطبقة العمالية البيضاء يدعمون سياسيّين شعبويين محافظين يبحثون أيضاً عن الاحترام والاعتراف بوجودهم. ويجب على الليبراليين والتقدميّين، وحتّى المناهضين للعنصرية، أن يفكّروا كيف يمكن أن يرتبطوا معهم.
وتشير لامونت إلى أنّه عن طريق النظر إلى هؤلاء الأشخاص كبشر يبحثون عن الكرامة والاحترام قد يصبح من الممكن تطوير حوار بناء يسهم في إصلاح الديمقراطية المتدهّورة. وتضيف المؤلفة أنه ربّما كانت الأساليب التي يسعى عن طريقها العمال الداعمون للسياسيّين الشعبويين؛ كترامب، وراء كرامتهم مريعة، إلا أن بحثهم عن كبش فداء ينبع من عدم شعورهم بقيمتهم ومن قلّة احترامهم وعدم تقديرهم في المجتمع. وهنا ترى لامونت أن العمال هم الخاسرون في المجتمع الأميركي، فرغم أن ترامب شدّهم إليه بتصريحاته الشعبوية، فإن القوى الأخرى الديمقراطية والتقدّمية لم تمدّ لهم يد العون وتعمل على حلّ مشاكلهم.
تقترح المؤلفة تغيير طريقتنا في النظر إلى الأمور كي نفهم الدور الذي يلعبه قبول الآخر في حياتنا. وبكلمة قبول تعني "رؤية الآخرين" وتقديرهم والاعتراف بوجودهم وقيمتهم الإيجابية وجعلهم مرئيين ومحترمين على نحو فعال والتخفيف من تهميشهم ودمجهم علناً في الجماعة. وهنا تضرب المؤلفة مثالاً على ذلك وهو انتخاب الرئيس الأميركي باراك أوباما، كأول رئيس من أصل أفريقي للولايات المتحدة الأمريكية في 2008، والذي عدته انتخاباً تاريخياً. تقول إنه بعد الانتخابات لاحظ المراقبون أنَّ الآمال للتخلص من التمييز العنصري في أميركا انتعشت، وخاصّة بعد أن بدأت صور الرئيس وعائلته بالظهور في الإعلام. فقد كان كثير من الأميركيّين البيض الذين يعيشون في جماعات منفصلة ومعزولة يفهمون السود من خلال المسبقات، إلا أن رؤيتهم لعائلة سوداء من طبقة متوسطة بهذه الطريقة خلخلت مسبقاتهم وجعلتهم ينظرون إلى الأميركي من أصل أفريقي بطريقة مختلفة عن السابق.
علاوة على ذلك، شعرت عائلات أميركية سوداء بأنها "شوهدت" على حقيقتها أخيراً. ونشأت ظاهرة دعاها علماء النفس "تأثير أوباما"، والتي عنت أنّ انتخابه ألهم الأمل واحترام الذات لدى سكان أميركا السود.
سوّقت النيوليبرالية صوراً ضيّقة ومُلزمة عن الذات
تقوم عالمة الاجتماع بتعريف عدد من المصطلحات التي تستخدمها في الكتاب منعاً للالتباس فمثلاً تقول إن مصطلح "قيمة" يمكن أن يُساء فهمه، وهي تعني به شيئاً يختلف عن "المكانة الاجتماعية"، أو موقع الأفراد في التراتبيات القائمة على التنافس والسلطة أو النقود. بهذا المصطلح تشير إلى سلسلة واسعة من المعايير التي يستخدمها الناس لتحديد القيمة الشخصية والجمعية من الإيثار والإبداع إلى النجاح المهني.
إن القيمة والمكانة الاجتماعية يمكن أن ترتبطا بشكل حميم، لكن طريقة ارتباطهما تختلف على أساس الطبقة. على سبيل المثال إنّ المهنيين والمديرين الذين ينتمون إلى الطبقة المتوسطة العليا يؤمنون أنَّ قيمتهم مستمدّة من تعليمهم وخبرتهم ونجاحهم المهني والاقتصادي ونمط حياتهم المكلف. وهم يرون أنّ القيمة أو الجدارة تأتي من المكانة الاجتماعية، إلا أن هذا لا ينطبق على العمال.
ينطلق الكتاب من فرضية أن عالمنا منقسم على خطوط العرق والجندر والتوجّه الجنسي، وعلى خطوط طبقية وسياسية ودينية، وأن السرديات التي تملأ عالمنا الثقافي تغذي هذه الانقسامات. وترى عالمة الاجتماع ميشيل لامونت أننا نستطيع أن نغيّر عالمنا باستخدام سرديات جديدة تساعدنا على تقدير الآخر وقبوله وتغيير السرديات الموروثة والاندماج مع الآخرين المختلفين. وتشير المؤلّفة إلى دور السياسة في تعزيز الانقسامات داخل المجتمع ولهذا تقول إن انتخاب دونالد ترامب في 2016 ذكّر كثيرين بأنّ ما أنجزه أشخاص مثل مارتن لوثر كينغ الابن وباراك أوباما عرضة للتهديد، وأنه يجب الحفاظ على المكتسبات والنضال من أجلها.
الكتاب دعوة لاحترام الآخر المختلف مهما كانت طبيعة اختلافه، وترى لامونت أن هذا الأمر على درجة عالية من الأهمية لأنه يمكننا في النهاية من بناء مجتمع عادل وهادف للأجيال القادمة. وهو يهدف إلى تغيير الثقافة التي ينطلق منها الناس في نظرتهم إلى الآخرين، بالتالي يجب البحث عن طرق أخرى لتقدير الناس للعمل ضدّ التوجهات النيوليبرالية والموروثة بحيث لا يتم تقدير الأشخاص الذين يجمعون الأموال ويكدسون الثروات، بل الذين يقومون بأعمال الرعاية وأعمال أخرى تسهم في تطوّر المجتمع. بالتالي يبدأ كلّ شيء بهدم الثقافة السائدة والتي تستند إليها المسبقات والنزعات العنصرية واعتماد سرديات جديدة.
* شاعر ومترجم سوري مقيم في الولايات المتحدة