31 أكتوبر 2024
دروس الموجة الثانية من الثورات العربية
اختارت الموجة الثانية من الثورات العربية لنفسها ساحاتٍ لم تتمكّن منها الموجة الأولى (الجزائر والسودان والعراق ولبنان)، وتميزت بابتعادها عن الطاقة الدينية أو الطائفية. كانت الموجة الأولى قد استنفدت، إلى درجة كبيرة، رصيد الحركات الإسلامية. في مصر، ظهر الإخوان المسلمون حزبيين وهزيلين في الحكم، إلى حد دفع ملايين المصريين إلى الشارع، وساعد في حدوث انقلاب الثالث من يوليو/ تموز 2013 (مع رفض الكاتب الانقلاب والعنف والسياسة الجائرة التي مورست بحق إخوان مصر). وفي سورية، استفاد الإسلاميون من غياب فعل مستقل للقوى الديمقراطية، وحشروا الثورة في إطار من التصوّرات الطائفية والقيم البائدة، ومارسوا، حيث سيطروا، سلطةً دمويةً لا محل فيها لقيم الثورة التي اغتنموها. الموجة الأولى من الثورات العربية كشفت إذاً فراغ الأمل بالحركات الإسلامية، والحدود الضيقة لها، سواء التي وصلت إلى سدة الحكم، أو تلك التي لم تصل ومارست سلطة أمرٍ واقع في مناطق سيطرتها.
لم نشهد في الانتفاضة العراقية أو اللبنانية حضوراً يُذكر لقوى دينية أو مذهبية. الواضح أن الوعي العام لجمهور الحراكين لا يتقبل الفكرة الطائفية أو الدينية محرّكاً أو مساعداً في التحريك، وأن هذا الجمهور لا يعترف على خطوط الانقسام الطائفية بوصفها خطوط انقسام سياسية، ولا يرى فيها، من باب أوْلى، خطوط صراع أو تماس. ما يوحّد الحراك هنا وهناك هو مفهوم وطني اجتماعي يبدو على خلفيته أن التمييز الديني أو المذهبي جزءٌ من الثورة المضادة. وحّدت الحاجات الاقتصادية والاجتماعية الناس من فوق تلك الخطوط المتخيّلة أو الموهومة. ذلك على خلاف الحال الذي اتخذ بعده الأقصى في سورية، حيث بدأ الثوب الإسلامي يبتلع الثورة السورية، منذ وقتٍ مبكر، الثوب الذي جمع بين البعديْن، الديني (الحاكمية لله) والطائفي (ضد النظام العلوي) واجتهد في التمكين لنفسه، وفي طرد العلمانية والديمقراطية من الميدان بالتدريج.
تحرّض هذه الملاحظة شلالاً من الأسئلة: هل يتخذ الحراك صبغةً علمانيةً، حين تكون طائفية
النظام السياسي المستهدف صريحة (العراق ولبنان)، فيما يميل الحراك إلى الطائفية حين تكون طائفية النظام المستهدف مستترةً خلف خطاب سياسي غير طائفي (سورية)؟ أم أن النزوع الطائفي الذي شمل الانتفاضة السورية بالتدريج، حتى أغرقها، ينبع من أن من يسيطرون على أجهزة القمع والقوة في الدولة ينتمون إلى أقليةٍ مذهبية؟ ولكن هل انتماء هؤلاء إلى الأكثرية المذهبية كان سيحمي من بروز أشكال الإسلام السياسي وسيطرتها على الثورة؟ ألم نشهد صعوداً إسلامياً أيضاً في البلدان التي تحكم فيها فئاتٌ من الأكثرية المسلمة؟ أليس إذاً الابتعاد عن المحرّكات الدينية في الصراع تطوّراً مهماً في الموجة الثانية؟ هل ابتعدت الموجة الثانية عن المحرّكات الدينية والمذهبية بسبب "ظاهرية" الطائفية السياسية في العراق ولبنان، أم لأنها استفادت من دروس الموجة الأولى؟ وهل يعني التمرّد السياسي على الروابط الدينية والمذهبية (سيما في انتفاضتي العراق ولبنان) هزيمةً لصراع الهويات لصالح صراع المصالح، مصالح العموم في مواجهة مصالح النخب السياسية والاقتصادية؟ بكلام آخر، هل هي بداية تشكل المواطنة المحلية بوصفها هوية؟
الحاجات الاقتصادية الأساسية (السكن والعمل) كانت محرّك الانتفاضة في العراق، كما كانت شرارة الانتفاضة اللبنانية قراراً اقتصادياً (رفع تسعيرة اتصالات واتساب)، وإذا كان الشأن الاقتصادي هو مفجر هاتين الثورتين، فإن الثورة السورية انطلقت من واقعةٍ سياسيةٍ أمنيةٍ (استجابة أمنية دموية لكتابة شعارات سياسية على الجدران في درعا). تحرّكت الثورة السورية على خط مغاير إذاً، هو خط سياسي بشعاراتٍ تطالب بالحرية وترفض الذل، مع الحرص على نفي البعد الاقتصادي عن حراكهم، بترديد "الشعب السوري مو جوعان"، حين حاول نظام الأسد احتواء الحركة الشعبية بزيادة الرواتب.
الانطلاق من مطالب اقتصادية سوف يفضي حكماً إلى مطالب سياسية، لأن التردّي الاقتصادي مرتبط أو ناجم، بشكل أساسي، عن تكوين سياسي محدّد. ولكن ما يستدعي التأمل والمراجعة أن "الانتخابات والديمقراطية وتداول السلطة" في العراق وفي لبنان لم تشكل مدخلاً إلى تحسين
الوضع الاقتصادي، لا من حيث تحسين موقع الاقتصاد المحلي في الاقتصاد العالمي، ولا من حيث ضبط ظاهرة الفساد، هذا فضلاً عن أنها، في بعدها الطائفي، زعزعت النسيج الوطني للبلدين. يقود هذا إلى حقيقة أن احتكار السلطة ليس فقط صنعةً ديكتاتورية، بل يمكن أن يتخذ صيغة "ديمقراطية" تشكل، في الواقع، صيغةً احتياطيةً في يد أصحاب المصالح الكبرى، يمكن أن يجري من خلالها الالتفاف على الثورات، وخنقها بحبلٍ ناعمٍ من اختيارها.
المعضلة في بلداننا أنه يوجد ابتعادٌ مزمن للفئات الشعبية عن التأثير في شؤون حياتها الاقتصادية واليومية، ناجم عن تاريخ من القمع جعل المعرفة في الشؤون الاقتصادية لدى العامة شبه معدومة، وأحدث اغترابا عميقا بين المحكومين وإدارة شؤونهم. حتى على مستوى النخب السياسية، لا توجد معرفة اقتصادية وافية، ولا يتوفر السياسيون المعارضون، في المجمل، على مقترحاتٍ اقتصاديةٍ محدّدة وملموسة وعملية. يقود هذا الحال إلى تضخّم سياسي يظهر على شكل اختصار المعضلة كلها في "الحكم" الذي يتحمّل مسؤولية كل شيء، وحين يستبدل "الحكم"، نجد أننا أمام المشكلات عينها، حتى لو كلف تبديل الحكم ثوراتٍ وتضحياتٍ باهظة. تحميل الحكم مسؤولية كل شيء يعني أن إسقاط الحكم يحل مشكلة كل شيء، وهذا مسار إحباطاتٍ لا تنتهي.
إذا كانت الموجة الثانية من الثورات العربية قد فهمت درس الموجة الأولى، وابتعدت عن المحرّك الديني والمذهبي، فإن الموجة الثانية تقدّم لنا درسين مهمين. الأول أن المطالب الديمقراطية قادرةٌ على تحريك الشارع وتوحيده، وأنها تمتلك من الطاقة ما يكفي لإسقاط حكومات وفرض خيارات سياسية، وأن في مقدور الديمقراطيين بالتالي الاستغناء عن "الطاقة الإسلامية" التي طالما توهموها حاملاً لآمالهم التحرّرية. والثاني أن الديمقراطية تبقى فارغةً ما لم تترافق مع العمل الجاد والطويل النفس لبناء منظمات مجتمع مدني في مختلف المستويات لا تكتفي بالمراقبة والضغط، بل وتعمل أيضاً على تحصيل المعرفة، وتقديم مقترحات حلول واحتمالات عملية وملموسة، تصب في خدمة القطاع الأوسع من الناس.
تحرّض هذه الملاحظة شلالاً من الأسئلة: هل يتخذ الحراك صبغةً علمانيةً، حين تكون طائفية
الحاجات الاقتصادية الأساسية (السكن والعمل) كانت محرّك الانتفاضة في العراق، كما كانت شرارة الانتفاضة اللبنانية قراراً اقتصادياً (رفع تسعيرة اتصالات واتساب)، وإذا كان الشأن الاقتصادي هو مفجر هاتين الثورتين، فإن الثورة السورية انطلقت من واقعةٍ سياسيةٍ أمنيةٍ (استجابة أمنية دموية لكتابة شعارات سياسية على الجدران في درعا). تحرّكت الثورة السورية على خط مغاير إذاً، هو خط سياسي بشعاراتٍ تطالب بالحرية وترفض الذل، مع الحرص على نفي البعد الاقتصادي عن حراكهم، بترديد "الشعب السوري مو جوعان"، حين حاول نظام الأسد احتواء الحركة الشعبية بزيادة الرواتب.
الانطلاق من مطالب اقتصادية سوف يفضي حكماً إلى مطالب سياسية، لأن التردّي الاقتصادي مرتبط أو ناجم، بشكل أساسي، عن تكوين سياسي محدّد. ولكن ما يستدعي التأمل والمراجعة أن "الانتخابات والديمقراطية وتداول السلطة" في العراق وفي لبنان لم تشكل مدخلاً إلى تحسين
المعضلة في بلداننا أنه يوجد ابتعادٌ مزمن للفئات الشعبية عن التأثير في شؤون حياتها الاقتصادية واليومية، ناجم عن تاريخ من القمع جعل المعرفة في الشؤون الاقتصادية لدى العامة شبه معدومة، وأحدث اغترابا عميقا بين المحكومين وإدارة شؤونهم. حتى على مستوى النخب السياسية، لا توجد معرفة اقتصادية وافية، ولا يتوفر السياسيون المعارضون، في المجمل، على مقترحاتٍ اقتصاديةٍ محدّدة وملموسة وعملية. يقود هذا الحال إلى تضخّم سياسي يظهر على شكل اختصار المعضلة كلها في "الحكم" الذي يتحمّل مسؤولية كل شيء، وحين يستبدل "الحكم"، نجد أننا أمام المشكلات عينها، حتى لو كلف تبديل الحكم ثوراتٍ وتضحياتٍ باهظة. تحميل الحكم مسؤولية كل شيء يعني أن إسقاط الحكم يحل مشكلة كل شيء، وهذا مسار إحباطاتٍ لا تنتهي.
إذا كانت الموجة الثانية من الثورات العربية قد فهمت درس الموجة الأولى، وابتعدت عن المحرّك الديني والمذهبي، فإن الموجة الثانية تقدّم لنا درسين مهمين. الأول أن المطالب الديمقراطية قادرةٌ على تحريك الشارع وتوحيده، وأنها تمتلك من الطاقة ما يكفي لإسقاط حكومات وفرض خيارات سياسية، وأن في مقدور الديمقراطيين بالتالي الاستغناء عن "الطاقة الإسلامية" التي طالما توهموها حاملاً لآمالهم التحرّرية. والثاني أن الديمقراطية تبقى فارغةً ما لم تترافق مع العمل الجاد والطويل النفس لبناء منظمات مجتمع مدني في مختلف المستويات لا تكتفي بالمراقبة والضغط، بل وتعمل أيضاً على تحصيل المعرفة، وتقديم مقترحات حلول واحتمالات عملية وملموسة، تصب في خدمة القطاع الأوسع من الناس.