11 ابريل 2024
درس كركوك القاسي
حثّت بغداد الخطى مسرعةً لأجل سحب ورقة كركوك من يد الجانب الكردي، لتبقي هذه الورقة الحيوية خارج نطاق التفاوض المقبل بين أربيل وبغداد، ما يعني نزع أهم الأوراق التفاوضية التي كان من شأنها تعزيز موقف أربيل على طاولة المفاوضات حال البدء بها، زد على ذلك فوات المقولة التي حاول الإقليم ترسيخها إن "الحدود تُرسَم بالدم"، في إشارة إلى المناطق المتنازع عليها، التي حرّرتها قوات البشمركة في وقت سابق.
عملية "التسليم" واستعادة السيطرة التي قام بها الجيش، رفقة قوات الحشد الشعبي، لم تكن من السرية بمكان، إذ جاءت بالتوافق بين أقطاب نافذة في الاتحاد الوطني الكردستاني، بل جاءت مشفوعةً بطلب من قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني، الذي كان في زيارة إلى السليمانية، حيث التقى قيادات الاتحاد الوطني الكردستاني، وحثّهم على إعادة الأوضاع في كركوك إلى سابق عهدها، أي إلى ما قبل بسط السيطرة الكردية شبه المطلقة عليها.
لكنه وبمعزلٍ عن الصدمة التي تسببت بها عملية التسليم هذه، فإن الأوضاع تشي بانقسام عميق داخل البيت الكردستاني، لاسيما بين حزبيه الرئيسيين المؤتلفين، الاتحاد الوطني الكردستاني والديمقراطي الكردستاني، علاوةً على وجود انقسامات حادّة داخل الاتحاد الوطني الكردستاني بين مؤيدٍ قرارات الحكومة الاتحادية وفريق يرى وجوب الالتزام بالاتفاقات مع الديمقراطي
الكردستاني أو ما يمكن أن تُسمَّى برئاسة الإقليم، وهذه ليست المرّة الأولى التي ينقسم فيها الاتحاد الوطني على نفسه، فقد سبق أن غادر أبرز أعمدته، نوشروان مصطفى، ليشكّل حركة التغيير 2009 التي قوّضت نفوذ الاتحاد داخل أهم معاقله في محافظة السليمانية، بالإضافة إلى الانقسام الهادئ الذي قاده النائب الثاني للأمين العام في الاتحاد الوطني، برهم صالح، الذي أعلن نيته خوض الانتخابات التشريعية ضمن تحالف جديد من خارج حزبه السابق.
في موازاة حالة الانقسام الحاصل، ثمّة حالة من تبادل الاتهامات القاسية، من قبيل الاتهامات بالخيانة والعمالة، الأمر الذي قد يوصل الأمور إلى خلاف كردي – كردي، يعيد إلى الأذهان ذكريات مريرة عن الحرب الأهلية، وانقسام إقليم كردستان إلى إدارتين (السليمانية وأربيل).
تسبّب التراجع الكبير في كركوك بخيبة أملٍ كردية عارمة، لا بل بانكسارٍ يشبه الهزيمة، فمنظر العناصر المرابطة من البشمركة تخلي مواقعها من دون قتال، وهي تذرف الدموع، لشدة عجزها من عدم الانصياع لقرارات رؤسائها بالإخلاء والانسحاب، ومشهد إنزال العلم الكردي عن المرافق والدوائر الحكومية، وسواها من مراراتٍ وثّقتها الكاميرات، أدت إلى اعتبار ما حصل بداية النهاية للمشروع القومي المتمثّل بالاستقلال، والتفاؤل الحار الذي سبق الاستفتاء على الاستقلال، فعلى الرغم من أن كركوك بحكم الدستور العراقي منطقة متنازع عليها، وخاضعة لتدابير معيّنة، لا تسمح بتحوّلها إلى منطقة تابعة للمركز أو الإقليم، إلا أن الرأي العام الكردي كان قد احتسبها جزءاً كردستانياً في متناول اليد الكردية، أو أنها على مرمى حجر من أن تصبح المحافظة الرابعة في الإقليم. وفوق ذلك، توقع عموم الكرد معركةً حقيقيّة، في كركوك وأكنافها، تفضي إلى إرغام بغداد على التفاوض، وتحرج شركاءها الإقليميين، بيد أن ما لم يكن في الحسبان، أي تفرّد حزب بل قسماً من حزب يحتكم على القرار في كركوك، هو الذي وقع.
الغالب على الظن أن كركوك ليست سوى أوّل الطريق الذي تمشي عليه بغداد، فالمخاوف
الكردية المتصلة تتركّز بشأن بقية المناطق المتنازع عليها، وكذلك المعابر الحدوديّة، والمطارات، وإمكانيّة بسط حصار اقتصادي بدعم تركيّ وإيرانيّ، ما قد يزيد من حراجة الموقف الكردي، الأمر الذي قد ينهي أي مجالٍ للتفاوض مع بغداد، ذلك أن بغداد لن تفاوض، وهي في موقع القوة المطلقة، وفي مكانٍ يسمح لها بالحركة، وفعل ما تشاء، من دون رادع أو مانع، وفي ظل غياب أي تأثيرٍ للفاعلين الدوليين الذين يمكن لهم المساهمة في الحد من سياسات بغداد، ففائض القوى الذي تشعر به بغداد الآن قد يؤذن بممارسة مزيد من الضغوط والممارسات العملية على الأرض، في لحظة غير سعيدة للكرد، عنوانها الانقسام والفُرقة الكرديان.
لذا، قد يتوجب على الطبقة السياسية في إقليم كردستان الشروع في عملية نقد ذاتي، وانتهاج سياساتٍ توافقية تعيد التألق إلى الإقليم الذي صُوّر على أنه صورة للعراق المستقبلي، وذلك عبر توحيد الصف الكردي وعبر الحد من السياسات التي لا تغري الدول الإقليمية والكبرى، إلى جانب ضرورة البدء بعملية تشييد الحكم الرشيد والديمقراطي، وتفعيل المؤسسات الدستورية في الإقليم، وإلا فإن سياسات تبادل اللوم والتخوين لن تجلب إلّا مزيداً من المشكلات والانقسامات التي قد تودي بكل التجربة الكردية إلى المجهول.
صفوة الكلام، قد يكون درس كركوك قاسياً، إلا أنه، في جوهره، ليس انكساراً عسكرياً لقوات البشمركة التي يشهد لها بالشجاعة ورباطة الجأش، بقدر ما هو انكسارٌ سياسيّ كردي، وتعبير بليغ عن سوء الأوضاع السياسيّة وتردّيها، في منطقة مليئة بالخصوم وشحيحة بالأصدقاء.
عملية "التسليم" واستعادة السيطرة التي قام بها الجيش، رفقة قوات الحشد الشعبي، لم تكن من السرية بمكان، إذ جاءت بالتوافق بين أقطاب نافذة في الاتحاد الوطني الكردستاني، بل جاءت مشفوعةً بطلب من قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني، الذي كان في زيارة إلى السليمانية، حيث التقى قيادات الاتحاد الوطني الكردستاني، وحثّهم على إعادة الأوضاع في كركوك إلى سابق عهدها، أي إلى ما قبل بسط السيطرة الكردية شبه المطلقة عليها.
لكنه وبمعزلٍ عن الصدمة التي تسببت بها عملية التسليم هذه، فإن الأوضاع تشي بانقسام عميق داخل البيت الكردستاني، لاسيما بين حزبيه الرئيسيين المؤتلفين، الاتحاد الوطني الكردستاني والديمقراطي الكردستاني، علاوةً على وجود انقسامات حادّة داخل الاتحاد الوطني الكردستاني بين مؤيدٍ قرارات الحكومة الاتحادية وفريق يرى وجوب الالتزام بالاتفاقات مع الديمقراطي
في موازاة حالة الانقسام الحاصل، ثمّة حالة من تبادل الاتهامات القاسية، من قبيل الاتهامات بالخيانة والعمالة، الأمر الذي قد يوصل الأمور إلى خلاف كردي – كردي، يعيد إلى الأذهان ذكريات مريرة عن الحرب الأهلية، وانقسام إقليم كردستان إلى إدارتين (السليمانية وأربيل).
تسبّب التراجع الكبير في كركوك بخيبة أملٍ كردية عارمة، لا بل بانكسارٍ يشبه الهزيمة، فمنظر العناصر المرابطة من البشمركة تخلي مواقعها من دون قتال، وهي تذرف الدموع، لشدة عجزها من عدم الانصياع لقرارات رؤسائها بالإخلاء والانسحاب، ومشهد إنزال العلم الكردي عن المرافق والدوائر الحكومية، وسواها من مراراتٍ وثّقتها الكاميرات، أدت إلى اعتبار ما حصل بداية النهاية للمشروع القومي المتمثّل بالاستقلال، والتفاؤل الحار الذي سبق الاستفتاء على الاستقلال، فعلى الرغم من أن كركوك بحكم الدستور العراقي منطقة متنازع عليها، وخاضعة لتدابير معيّنة، لا تسمح بتحوّلها إلى منطقة تابعة للمركز أو الإقليم، إلا أن الرأي العام الكردي كان قد احتسبها جزءاً كردستانياً في متناول اليد الكردية، أو أنها على مرمى حجر من أن تصبح المحافظة الرابعة في الإقليم. وفوق ذلك، توقع عموم الكرد معركةً حقيقيّة، في كركوك وأكنافها، تفضي إلى إرغام بغداد على التفاوض، وتحرج شركاءها الإقليميين، بيد أن ما لم يكن في الحسبان، أي تفرّد حزب بل قسماً من حزب يحتكم على القرار في كركوك، هو الذي وقع.
الغالب على الظن أن كركوك ليست سوى أوّل الطريق الذي تمشي عليه بغداد، فالمخاوف
لذا، قد يتوجب على الطبقة السياسية في إقليم كردستان الشروع في عملية نقد ذاتي، وانتهاج سياساتٍ توافقية تعيد التألق إلى الإقليم الذي صُوّر على أنه صورة للعراق المستقبلي، وذلك عبر توحيد الصف الكردي وعبر الحد من السياسات التي لا تغري الدول الإقليمية والكبرى، إلى جانب ضرورة البدء بعملية تشييد الحكم الرشيد والديمقراطي، وتفعيل المؤسسات الدستورية في الإقليم، وإلا فإن سياسات تبادل اللوم والتخوين لن تجلب إلّا مزيداً من المشكلات والانقسامات التي قد تودي بكل التجربة الكردية إلى المجهول.
صفوة الكلام، قد يكون درس كركوك قاسياً، إلا أنه، في جوهره، ليس انكساراً عسكرياً لقوات البشمركة التي يشهد لها بالشجاعة ورباطة الجأش، بقدر ما هو انكسارٌ سياسيّ كردي، وتعبير بليغ عن سوء الأوضاع السياسيّة وتردّيها، في منطقة مليئة بالخصوم وشحيحة بالأصدقاء.
دلالات
مقالات أخرى
19 فبراير 2023
10 ابريل 2022
17 فبراير 2022