18 يوليو 2017
دراما الهول الإنساني
يدخل الإبداع الفني التاريخ، عندما يمثل روح العصر، وعندما يعبر الفن عن أعمق قيم وتطلعات ومآسي عصره. فهو بهذه الحالة يعبّر تلقائياً عن جوهر إنساني خالد، يتيح له البقاء عبر العصور. هذه هي سمات الفن الرفيع. إنه لا يفقد الراهنية أبداً، يبقى قابلاً للقراءة وإعادة القراءة عصراً إثر آخر. يحافظ على قدرته على تقديم المعرفة والحكمة والجمال والتبصّر. إنسانيته العميقة تجعله غير قابل للاندثار.
في مجال الفن التشكيلي، هناك اسم يعتبر في فنه وإبداعه من هذا النوع فعلاً. إنّه بيتر بروغل (Bruegel 1525-1565) الرسام الفلمنكي الهولندي الشهير بمجموعات لوحاته الموزعة على أفخم متاحف العالم وأهمها. يضم المتحف الملكي للفنون الجميلة في بلجيكا رائعة تعتبر من أوابد الفن التشكيلي (سقوط الملائكة المتمردين) التي تعتبر الأشهر. في متاحف فيينا ومدريد وباريس، تنتشر لوحات الفنان التي تصنّف عموماً على أنها "ليست للتداول"، أي لا تقدّر بالأثمان والمبالغ المالية والعملات.
لوحة خاصة من أعمال الفنان تعتبر استثنائية، وتسترعي انتباهاً كبيراً (المجنونة غريت)، اللوحة الزيتية التي يقدّر أنها رسمت في حوالي عام 1562 والموجودة اليوم في متحف ماير فان دن بيرغ، في بلجيكا، وتصنّف أنّها أهم مقتنياته. لطالما شغلت هذه اللوحة النقاد الفنيين. لقد اختلفت وتصارعت الآراء والانتقادات والتحليلات حولها لقرون. امرأة تسير بخطوات سريعة واسعة على المساحة العارية في مقدمة اللوحة. لا نعرف لماذا تتحرّك، ولا إلى أين، وقد تبدو هاربة. خلفية اللوحة أقل ما يقال حولها أنّها رهيبة، كلّ البشاعات الجهنمية الممكنة، شياطين وأسماك لها أرجل ووحوش. أما إلى اليمين فكثرة من البشر المسلحين يقف أحدهم ضد الآخر في احتدام الصراع الانساني، المشهد المحترق، الكنائس المخرّبة، الدمار اللون الأحمر الملتهب الذي يسود الأفق.. كل ذلك يوحي ببساطة بالهول.
"المجنونة غريت"، فعلاً نتاج صعب القراءة أو التفسير وهو معقد. لكن من أجل الاقتراب منه يجب أولا البدء بالعصر الذي رسمت فيه اللوحة.
1562، الزمن الذي اكتسحت فيه جيوش الملك الإسباني فيليب الثاني بلاد الفلمنك والرسام يعرض كابوس الحرب والاحتلال عبر بانوراما رهيبة للموت والجنون والبربرية الإنسانية. الجنون الخطر في هذه اللوحة ليس في المرأة بل في العالم من حولها. النور الدموي الحرائق والعقوبات والموت. دراما عالم مجنون مرعب تسرع غريت في الهروب منه، وهنا ذروة مأساوية العمل، الإنسان ممثلا بغريت التي تهرب من عالم مجنون، صنعه "عقلاء"، وصلوا بجشعهم وقسوتهم إلى حد الهذيان المحموم الكامل. وهنا تحديداً، يصل بوغل إلى الجوهر الذي لا يتمكن منه سوى مبدع كبير، جنون العالم لا يرحم الأفراد، بل ينعكس فيهم وبلا رحمة. إنه يجرّدهم من إنسانيتهم ومن كل منطق أو عقل. إنها دراما امرأة صيّرها الخوف مشوشة، مرتعبة، تهرب مع غنائمها باندفاع غرائزي بشع وبنظرة زجاجية وفم مفتوح يكاد يوحي بالعته، إنّه جنون الناس والعالم منظوراً إليه عبر نظرة امرأة مجنونة. هذا ما تفعله الحرب والبربرية الهمجية بالإنسان، هكذا يصير أمام ذعر جنون الحياة عندما تعصف به أهوال الدمار والقتل والوحشية والتشريد.
لا يستطيع القارئ المعاصر لهذه اللوحة إلا أن يستحضر هول جنون الحرب الرهيبة الدائرة في سورية منذ حوالي سبع سنوات. الرعب والخوف وانتصارات الموت في مشهد سوريالي لم يشهد مثيلاً له في العصر الحديث. مشاهد الموت في سورية من معتقلات ومجازر وإبادات. ذات البانوراما تتكرّر تاريخياً بفظاعة مهوّلة، والإنسان السوري الهارب بجنون الباحث عن ملجأ، فاقداً لصوابه في ظلّ هذه المعمعة التي صارت عصية على كلّ عقل وكلّ منطق وكلّ تحليل.
إنّها غريت الخالدة حاضرة اليوم بكلّ تفاصيلها في ظل هذا الدمار الرهيب وعالم الخرائب والجثث، في ظل هذه العربدة الدموية هل هناك مكان للعقل أو الانسانية؟ إنه ارتداد فظيع للإنسان نحو غريزة البقاء وهاجس الهرب من هذه الويلات.
الحرب السورية اليوم إثبات قاسي ومؤلم على أنّ فكرة لوحة بروغل المركزية: دراما الجنون البشري، لا زالت راهنة وحاضرة في تاريخ النوع الإنساني ولم يحن الأوان بعد لإيداعها المتحف.
إنها حاضرة اليوم أكثر من أي وقت مضى.
في مجال الفن التشكيلي، هناك اسم يعتبر في فنه وإبداعه من هذا النوع فعلاً. إنّه بيتر بروغل (Bruegel 1525-1565) الرسام الفلمنكي الهولندي الشهير بمجموعات لوحاته الموزعة على أفخم متاحف العالم وأهمها. يضم المتحف الملكي للفنون الجميلة في بلجيكا رائعة تعتبر من أوابد الفن التشكيلي (سقوط الملائكة المتمردين) التي تعتبر الأشهر. في متاحف فيينا ومدريد وباريس، تنتشر لوحات الفنان التي تصنّف عموماً على أنها "ليست للتداول"، أي لا تقدّر بالأثمان والمبالغ المالية والعملات.
لوحة خاصة من أعمال الفنان تعتبر استثنائية، وتسترعي انتباهاً كبيراً (المجنونة غريت)، اللوحة الزيتية التي يقدّر أنها رسمت في حوالي عام 1562 والموجودة اليوم في متحف ماير فان دن بيرغ، في بلجيكا، وتصنّف أنّها أهم مقتنياته. لطالما شغلت هذه اللوحة النقاد الفنيين. لقد اختلفت وتصارعت الآراء والانتقادات والتحليلات حولها لقرون. امرأة تسير بخطوات سريعة واسعة على المساحة العارية في مقدمة اللوحة. لا نعرف لماذا تتحرّك، ولا إلى أين، وقد تبدو هاربة. خلفية اللوحة أقل ما يقال حولها أنّها رهيبة، كلّ البشاعات الجهنمية الممكنة، شياطين وأسماك لها أرجل ووحوش. أما إلى اليمين فكثرة من البشر المسلحين يقف أحدهم ضد الآخر في احتدام الصراع الانساني، المشهد المحترق، الكنائس المخرّبة، الدمار اللون الأحمر الملتهب الذي يسود الأفق.. كل ذلك يوحي ببساطة بالهول.
"المجنونة غريت"، فعلاً نتاج صعب القراءة أو التفسير وهو معقد. لكن من أجل الاقتراب منه يجب أولا البدء بالعصر الذي رسمت فيه اللوحة.
1562، الزمن الذي اكتسحت فيه جيوش الملك الإسباني فيليب الثاني بلاد الفلمنك والرسام يعرض كابوس الحرب والاحتلال عبر بانوراما رهيبة للموت والجنون والبربرية الإنسانية. الجنون الخطر في هذه اللوحة ليس في المرأة بل في العالم من حولها. النور الدموي الحرائق والعقوبات والموت. دراما عالم مجنون مرعب تسرع غريت في الهروب منه، وهنا ذروة مأساوية العمل، الإنسان ممثلا بغريت التي تهرب من عالم مجنون، صنعه "عقلاء"، وصلوا بجشعهم وقسوتهم إلى حد الهذيان المحموم الكامل. وهنا تحديداً، يصل بوغل إلى الجوهر الذي لا يتمكن منه سوى مبدع كبير، جنون العالم لا يرحم الأفراد، بل ينعكس فيهم وبلا رحمة. إنه يجرّدهم من إنسانيتهم ومن كل منطق أو عقل. إنها دراما امرأة صيّرها الخوف مشوشة، مرتعبة، تهرب مع غنائمها باندفاع غرائزي بشع وبنظرة زجاجية وفم مفتوح يكاد يوحي بالعته، إنّه جنون الناس والعالم منظوراً إليه عبر نظرة امرأة مجنونة. هذا ما تفعله الحرب والبربرية الهمجية بالإنسان، هكذا يصير أمام ذعر جنون الحياة عندما تعصف به أهوال الدمار والقتل والوحشية والتشريد.
لا يستطيع القارئ المعاصر لهذه اللوحة إلا أن يستحضر هول جنون الحرب الرهيبة الدائرة في سورية منذ حوالي سبع سنوات. الرعب والخوف وانتصارات الموت في مشهد سوريالي لم يشهد مثيلاً له في العصر الحديث. مشاهد الموت في سورية من معتقلات ومجازر وإبادات. ذات البانوراما تتكرّر تاريخياً بفظاعة مهوّلة، والإنسان السوري الهارب بجنون الباحث عن ملجأ، فاقداً لصوابه في ظلّ هذه المعمعة التي صارت عصية على كلّ عقل وكلّ منطق وكلّ تحليل.
إنّها غريت الخالدة حاضرة اليوم بكلّ تفاصيلها في ظل هذا الدمار الرهيب وعالم الخرائب والجثث، في ظل هذه العربدة الدموية هل هناك مكان للعقل أو الانسانية؟ إنه ارتداد فظيع للإنسان نحو غريزة البقاء وهاجس الهرب من هذه الويلات.
الحرب السورية اليوم إثبات قاسي ومؤلم على أنّ فكرة لوحة بروغل المركزية: دراما الجنون البشري، لا زالت راهنة وحاضرة في تاريخ النوع الإنساني ولم يحن الأوان بعد لإيداعها المتحف.
إنها حاضرة اليوم أكثر من أي وقت مضى.