خطاب الديكتاتور
قانون مجتمع المعلومات تشريع يسنّ في موريتانيا، قبل أشهر قليلة من ترشح رئيسنا، الجنرال محمد ولد عبد العزيز، لولاية رئاسية ثانية. وبالطبع، قبل نجاحه المؤكد فيها، لانتفاء وجود من يشابهه في حظوظ التنافس والفوز.
يهدف القانون، كما تدّعي مواده، إلى تنظيم فضاء التواصل الاجتماعي وشبكة الإنترنت، وتعزيز الحرية، والخير والفضيلة و...، بوضع عقوباتٍ وغراماتٍ ماليةٍ على كل من ينشر صورا، أو مواد مسيئة أو منافية لمفاهيم الحرية والخير والفضيلة، كما يراها رئيسنا الذي استولى على السلطة في انقلاب عسكريٍّ، قبل أكثر من خمس سنوات.
وبغض النظر عن تفصيلاته المحلية، فإن قراءة في القانون المذكور، تنتج صورة متماهيةً مع صورة الحق والخير والفضيلة والحرية، عند أي ديكتاتور عربي آخر. وتُكثر مواده من صيغ الحصر والمطلق، وتتناسى وتتجاهل أَن يحدد القانون لجمهوره المعاني النسبية لتلك القيم التي يزعم الدفاع عنها وصيانتها، في حين أنه يخرقها بطريقة دفاعه نفسها.
ويبدو القانون "الحاكمي" ذاك، وكأنه إعادة إنتاج أخرى لقصيدة محمود درويش "خطاب الديكتاتور"، والتي يحضر فيها تجسيد حقيقي لممارسات حاضرنا، أو بعضه. يتحول الحاكم الديكتاتور فيها إلى محدد أوحد لشكل شعبه الذي يستحق أن يكون محكومه، وإلى محدد شكل الحكم، وآليات انتخابه شعبَه المسكين، وإلى محدد مفاهيم الحق والخير والفضيلة والعدالة والحرية و...:
"سأختار أفراد شعبي، سأختاركم واحداً واحداً... سأمنحكم حق أن تخدموني، وأن ترفعوا صوري فوق جدرانكم، وأن تشكروني، لأني رضيت بكم أمة لي.. سأمنحكم حق أن تتملوا ملامح وجهي في كل عام جديد ..
سأمنحكم كل حق تريدون: حق البكاء على موت قط شريد، وحق الكلام عن السيرة النبوية في كل عيد.. وحق الذهاب إلى البحر في كل يوم تريدون .. لكم أن تناموا كما تشتهون ..
على أي جنب تريدون .. ناموا، لكم حق أن تحلموا برضاي وعطفي ..... ولا تدخلوا في السياسة، إلا إذا صدر الأمر عني..لأن السياسة سجني..هنا الحكم شورى.. هنا الحكم شورى، أنا حاكم منتخب، وأنتم جماهير منتخبة".
كل ما استجد بعد درويش، وأصبح يهدد باحتجاز "الآتي"، في ماضي صورته عن الديكتاتور العربي، أن الديكتاتورية أصبحت أذكى، وصارت تحاول صنع آليات استغلالها واستبدادها، بخيوطٍ من خبثٍ حريري. أصبح الديكتاتور يستخدم للوصول إلى الحكم، والبقاء فيه إلى الأبد، مزيجاً من القوة العسكرية، الملفوفة في محتوى مدني ناعم، وحالة "تظاهرية"، يصنعها سياسيون يجيدون استدعاء صورة الزعيم الملهم الخالد، بدعاوى البحث عن رجل قويٍّ قادر على انتشال سفينة البلد، وقيادتها نحو مستقبل واثق! ويجيدون ليّ أعناق المفاهيم، لتغدو مواتيةً لسير مراكبهم النفعية. فمثلاً، يتحول مفهوم الانقلاب، في نظرهم، إلى تجسيدٍ من نوع "مبتدع" لثلاثية إيستون عن مصادر الشرعية! وتسحق شرعية انتخاب الرئيس "المنقلب عليه" أمام شرعية مصنوعةٍ بإحكام، يسمونها تفاخراً "الثورية". وهم جاهزون، عندئذٍ، ليرفعوا، في وجه أي معترض، حجةً مفادها أَن المنتخب سقط في امتحان شرعية الإنجاز، ويتجاهلون أَنه لم يمكث فيهم سوى سنة يتيمة، إنهم شعب الديكتاتور المختار بعناية.
والديكتاتور العربي، اليوم، مستعد لمنح شعبه هياكل ديمقراطية تمثيلية، ومستعد لأن يقبل خلع بزته العسكرية، ولأن يسمى المواطن الأول، بحسب تعبير الساخر باسم يوسف، ومستعد، أيضاً، لقبول دخول انتخاباتٍ لإعادة تسميته، بعد اختياره رئيساً بشكل مدني. بل إنه مستعد أكثر لترك شعبه، يمارس حرية الصراخ والتعبير، والتنفيس عن غضبه من سوء الأحوال المعيشية المزمن. لأنه، ربما، يفهم أن الاحتقان، إنْ تواصل، قد يفتح المجال للتفكير في أشياء خارجة عن النص، هي بالضبط الثورة!
أصبحت الديمقراطية سلوكاً بائساً، يحتاج إعادة تأهيل وإصلاح وتعريف، غير أن الديكتاتور العربي، وهو يجسد خطابه الدموي، ويفصل مقاسات ديمقراطيته، ويحدد شعبه الأثير لديه والمنتقى منه، ويحدد له مساحة الحرية وشكلها، لا يتذكر أن الأمثل ليس أن نحدّد، مرة واحدة، كل معاني الصيرورة، كما يقول ريمون آرون في كتابه "فلسفة التاريخ النقدية".... وهل يقرأ الديكتاتور التاريخ أبدا؟
إنه، وبالكيفية التي تتطور فيها أشكال الديكتاتورية، وتصبح أنعم، عندما تحاول التمسح في قراءاتٍ متعسفةٍ للخير والحق والحرية. يمكن لأشكال النضال والثورة أن تتطور، ويمكن لبقية الشعب "المغضوب عليهم"، أولئك العامة الذين لا يفصحون عن موعد تحركهم، ولا يمكن قراءته على أرفف المكتبات، أَن يثوروا، بطريقة مفاجئة وخارقة، لكل الإجراءات الأمنية والتوقعات الفكرية التي يضعها الديكتاتور العربي وشعبه "النخبة" المنتقى.