في مارس/آذار من عام 2007، أصدر أحمد نظيف رئيس الوزراء آنذاك، قراراً بتحويل هيئة التأمين الصحي إلى شركة قابضة، كخطوة في طريق خصخصة القطاع الصحي بأكمله، كما وصفها ناشطون في المجال الصحي و20 منظمة من منظمات المجتمع المدني، والتي تصدت لرئيس وزراء مبارك، وأقامت دعوى قضائية لإبطال القرار ووقف ما وصفوه بكارثة التجارة في مرض الشعب.
وفي سبتمبر/أيلول من عام 2008، انتصر القضاء الإداري لحق أفراد المجتمع في الحصول على رعاية صحية آدمية، والتأكيد على واجب الدولة الأصيل في كفالته، وقام بإلغاء قرار رئيس الوزراء الذي اعتبره تجارة في حق أصيل للإنسان ولصيق بحقه في الحياة الذي لا يجب أن يخضع للتجارة وقوانين السوق.
تنص حيثيات حكم إبطال مجلس الدولة قرار خصخصة الصحة على "إن كفالة الدولة للرعاية الصحية تحول دون أن يكون الحق في الصحة محلاً للاستثمار أو المساومة والاحتكار".
اقرأ أيضا: الانتحار في مصر.. المدنيون يفضلونه شنقا والشرطيون بالسلاح
السيسي على خطى مبارك
بعد 7 سنوات، عاد الخطر من جديد متمثلاً في مشروع قانون التأمين الصحي الذي أعلنت عنه الحكومة المصرية، والذي تم إعداده بشكل أسوأ مما كان عليه قانون مبارك، حتى إن الدكتورة منى مينا وكيل نقابة الأطباء وصفته بالكارثة، وتصدت له إعلامياً وتم الحشد ضده شعبياً، لما يحتويه من خطورة على أمن مصر القومي المتمثل في صحة المصريين، وفق كلامها.
وينص المشروع الجديد على تحويل هيئة التأمين الصحي المفترض فيها عدم الاهتمام بالربح المادي، كونها جزءا من التزامات الدولة تجاه مواطنيها إلى هيئة اقتصادية، شأنها شأن كل الهيئات الاقتصادية الهادفة إلى الربح، ويتم تمويلها عن طريق اقتطاع نسبة من مرتبات العمال والموظفين، ثمناً للخدمة محملة بالربح، كما أنه ستتم مراجعة تلك النسب المستقطعة لإعادة تقدير الاشتراكات كل خمس سنوات، أي أنه من الممكن التراجع عن أي خدمة تقدمها الهيئة أو أية فائدة في المشروع أو زيادة سعرها طبقا لأسعار السوق، أو في حالة وجود عجز مالي.
كما نص المشروع على التعاقد مع المستشفيات والوحدات العامة والخاصة لتقديم الخدمة الصحية، بعد اعتماد تلك المنشأة والتأكد من مطابقتها لمعايير الجودة، وهو ما يعني خروج الكثير من المستشفيات والوحدات عن العمل، من غير القادرة على بلوغ معايير الجودة مما يمهد لبيعها إلى القطاع الخاص، وفقا لناشطين مهتمين بالقطاع الصحي المصري. في الوقت الذي تتنصل فيه وزارة الصحة من مسؤوليتها تجاه هذه المستشفيات الخاضعة لإدارتها ومسؤوليتها عن تدهورها، إذ لم ينص مشروعها على أي حلول للمستشفيات غير المطابقة للمعايير، كما لم يوضح وضع العاملين في المستشفيات والوحدات الصحية التي ستخرج من التعاقد، ولا أوضاع العاملين في المستشفيات الحكومية، وهل ستكون الهيئة ملزمة بالحفاظ على العاملين وحقوقهم أم لا، وهو ما يخالف حيثيات حكم إبطال مجلس الدولة قرار خصخصة الصحة السابق، والتي جاء فيها أن "الواجب الدستوري للدولة يحظر عليها النكوص عن القيام به بدعوى التطوير أو قصور الموازنة أو غير ذلك من الأسباب التي تتذرع بها الإدارة لتحقيق أهداف تفرغ هذا الواجب من مضمونه".
اقرأ أيضا: أحكام الإعدام في مصر.. هكذا يواجه النظام معارضيه
تشريد الأطباء
تزامناً مع إصدار مسودة هذا القانون، قام مجلس الوزراء بإصدار قرار بإنشاء هيئة التدريب الإلزامي للأطباء، بدعوى تطوير مستوى التدريب الطبي السريري لخريجي كليات الطب وامتحانهم للتحقق من استيفائهم التأهيل الكافي للممارسة الطبية الآمنة، وفق القرار.
إلا أن هذا القرار كباقي القرارات والقوانين الحكومية، ظاهره الرحمة، وباطنه العذاب، كما يقول أطباء مصريون، إذ إن القرار قد نص على عقد امتحان للأطباء لمنحهم شهادة مزاولة مهنة الطب، بعد عشرات الامتحانات التي تخطاها الأطباء في سنوات دراستهم الست، ودون معالجة لقصور التدريب العملي لسنة الامتياز، كما جعل مصير الأطباء الذين لم يتخطوا الامتحان مجهولاً، كما أنه سيضيف أعباء مالية على الطلبة المنهكين مادياً بالأصل خلال سبع سنوات، من خلال رسوم تُدفع للهيئة الجديدة، ورسوم لإعادة تأهيل غير المقبولين.
ويؤكد مصدر من نقابة الأطباء المصرية، أن الهدف الحقيقي وراء إنشاء هذه الهيئة هو تحرير الخدمات الصحية، عبر فتح الباب للأطباء من أي جنسية لمنافسة الأطباء المصريين في فرص العمل، وهو ما يعد جزءا من خطة تحرير الخدمات كجزء من اتفاقية "الجات" المرجع الأساسي للنظام الحاكم في كثير من تصرفاته الاقتصادية، وهو أيضاً ما هاجمه مجلس نقابة الأطباء ورفضه رفضاً قاطعاً.
تنص حيثيات حكم إبطال مجلس الدولة قرار خصخصة الصحة، على أن "الأمور في جهة الإدارة لا تدار بالنيات، لأن الإرادة الإدارية ليست إرادة شخصية لمصدر القرار، وإنما هي إرادة مقيدة بما يصدر من قوانين ولوائح".
اقرأ أيضا: إعادة تموضع الإخوان (5/1)..أربع مراحل للتغيير ترسم المستقبل
"البيزنس" دائماً في الخلفية
تزامناً مع الخطة الممنهجة لخصخصة القطاع الصحي في مصر، فجأة تظهر شركة عملاقة، تشتري كل ما يُباع في سوق القطاع الصحي، من مستشفيات ومعامل تحاليل ووحدات أشعة، وهي مجموعة أبراج كابيتال الإماراتية، التي استطاعت خلال أشهر معدودة شراء قرابة 15 مستشفى، كان من بينها مستشفيات النيل بدراوي، والقاهرة التخصصي، وكليوباترا، والشروق التخصصي، وأنباء عن عزمها شراء حصص كبيرة في كل من دار الفؤاد والسلام الدولي والنزهة الدولي، فضلاً عن شرائها معامل البرج والمختبر، وأنباء عن شرائها شركة آمون للأدوية.
المقلق في الأمر، أن الشركة التي دخلت كالمارد سوق الصحة في مصر، بقدر من الأموال لا يستطيع أحد منافستها فيه، أصبح لها ذراع حكومية أيضاً، وذلك بعد تعيين أحد الوزراء في حكومة الدكتور شريف إسماعيل من بين قياداتها، وهو وزير الصناعة طارق قابيل، الشريك الرسمي في المجموعة وأحد قياداتها، فضلاً عن أنباء سربتها بعض المصادر تفيد بعلاقة بعض وزراء آخرين في نفس الحكومة بالمجموعة، من بينهم وزير الصحة الدكتور أحمد عماد.
كما وقف مجلس نقابة الأطباء ضد قوانين خصخصة القطاع الصحي عبر ملاحقتها إعلاميا وقانونياً، كان للنقابة نفس الدور ضد الشركة العملاقة، إذ حذرت من أن الشركة متعددة الجنسيات، وقانون إنشائها يمنع الإعلان عن المساهمين فيها سواء كانوا أفرادا أو حكومات، وهو ما يضع قضية أمن قومي كقضية الرعاية الصحية في يد المجهول، خاصة أن الشركة توقفت عن الإعلان عن صفقاتها الجديدة، بعد الضجة التي أثارتها النقابة حول الموضوع.
ولاحقا قام العضو المنتدب للشركة بالرد على تلك الاتهامات، بأن وزارة الصحة تحتكر 90 في المائة من المستشفيات في مصر، فلا مجال لاحتكار الشركة الخدمات الصحية كما تقول نقابة الأطباء، إلا أنه بإقرار قانون التأمين الصحي الجديد المطروح من الحكومة ستتمكن الشركة من شراء المستشفيات الحكومية وهو ما يجعل رد الشركة لا قيمة له.