خريف البَطارِكَة العرب

25 ابريل 2014

أمام منزل ماركيز في مكسيكو (17 إبريل 2014، أ.ف.ب)

+ الخط -
عندما حصل الروائي العالمي، غابرييل غارسيا ماركيز، والذي رحل الأسبوع الماضي، على جائزة نوبل للآداب في عام 1982، سُئل عن شعوره، فردّ، بتواضع الكبار، بما مفاده أن الصعود إلى القمة عمل صعب، لكن النزول منها برأس مرفوعة يبقى أمراً أصعب!
ومن يعيد تأمل الإبداعات الأدبية لهذا الكاتب غير المتكرر، يجد أنه إذا كان هناك من خيط ناظم لهذا الشلال الإبداعي الهائل، فهو تيمة مرض السلطة وهوس الشهرة، وقد لخّصها بتكثيفٍ نادر في رائعته "خريف البطريرك"، حيث تصبح السلطة والشهرة متلازمتين متكاملتين. فالديكتاتور يعيش على هاجس واحد، هو شهرته التي يستمدها من سلطته المطلقة، فتتحول السلطة المطلقة إلى الموهبة الوحيدة التي تمكنه من أن ينتشي بشهرته، من دون أن تكون له أية موهبة استثنائية أخرى، تغذّي هاجس نشوته.
اختار ماركيز استعمال وصف "البطريرك"، ليس بمعناه الديني في مراتب الأساقفة داخل هرم الكنيسة المسيحية، وإنما قصد الأصل اليوناني للكلمة، وتعني "السلطة الأبوية"، عندما يتحول الحاكم الديكتاتور إلى "أبٍ للأمة"، يمارس عليها سلطته المطلقة بوصفه الأب. وفي روايته العميقة "خريف البطريرك"، يحكي قصة طاغية أمي، مستبد، بلا ضمير. أحمق جاء إلى السلطة مصادفةً، ونصّب نفسه حاكماً مطلقاً، يحكم بالرعب والخوف. إنه شخص مثير للاشمئزاز، فاسد، فاسق، مزاجي، ومتعطش للدماء، وبيده سلطة غير عادية، لدرجة أنه عندما كان يسأل عن الوقت، يجيبه المتملقون له إن الوقت كله طوع له، وله الساعة التي يشتهيها!

إنها حالة المأساة المتكررة التي عانت، ومازالت تعاني، منها شعوب العالم الثالث، ومنها شعوب العالم العربي، قصة الديكتاتور عابر كل الأزمنة، والمتكرر في أكثر من مكان. وفي تلك الرواية، نجد تجسيداً لكل الحمقى الذين حكموا الشعوب العربية، من صدام حسين المريض بعجرفته، إلى معمر القذافي المخبول بجنون عبقريته، مروراً بملوك وأمراء متخشبين فوق كروس عروشهم، إلى طاغية مثل بشار الأسد، ينتشي بقتل أطفال بلده ببرودة دم، أكثر مما كان يفعل طاغية غارسيا ماركيز، في تمثيلية اليانصيب التي كانت تحاك، بهدف إزاحته من السلطة، فكان البطريرك يختطف عند كل سحب للبطاقات طفلين ويخفيهما إلى الأبد، لكي يبقى رابحاً ومستمراً على سدة حكمه، حتى تجاوز عدد ضحاياه ألف طفل. ألم يتجاوز عدد ضحايا بشار الأسد، من الأطفال فقط، ضحايا كل دكتاتوري أميركا اللاتينية!
دكتاتور غابرييل غارسيا ماركيز، المتعدد الأرواح والمتمدد في الزمان، مازال يعيش في عالمنا العربي، ظهر أخيراً في هيئة رئيس متخشب فوق كرسي السلطة المتحرك وهو يبايع نفسه أمام صندوق الاقتراع في الجزائر، ونشرت صحف غربية صورته بأنابيب تنفس اصطناعية، وهو يشرب القهوة، ومازالت ترفع صوره في كل ميادين مصر بقبعته العسكرية ونظاراته السوداء ونياشين الحروب التي لم يخضها إلا ضد شعبه.
ما أشبه ديكتاتور ماركيز، في "خريف البطريرك"، بمستبدين حكموا، ومازالوا يحكمون، الشعوب العربية، من حسني مبارك المخلوع، إلى زين العابدين بن علي الهارب، مروراً بجشع من نهبوا، ومازالوا ينهبون، ثروات شعوبهم.
ومثل بطريرك ماركيز، فإن بَطارِكَة العالم العربي ينتهون إلى أن سلطتهم خالدة، وأعمارهم تتجاوز أعمار البشر العاديين، يرددون في ذروة خريفهم "عاش أنا". لا أحد يجرؤ على مصارحتهم بحقيقة أوهامهم، وهم يقتربون من المنعطف الأخير، إلى أن يجدوا أنفسهم وجهاً لوجه مع الموت، مثل ذلك الشبح بلا رأس ولا جسد، والذي يطل على البطريرك في نهاية رواية ماركيز، ليعلن له قرب نهايته في صفحات رائعة، يكثف فيها الكاتب الوجه الآخر للحياة التي لم يكن البطريرك يراها إلا من قفا ظهره.
الحياة التي لخصها لنا ماركيز، في وصيته الأخيرة التي كتبها وهو على فراش الموت، عندما كتب، وبتواضع دائما: "تعلمت منكم الكثير أيها البشر .. تعلمت أن الجميع يريد العيش في قمة الجبل، غير مدركين أن سر السعادة يكمن في تسلقه".
 
D6ADA755-48E0-4859-B360-83AB4BBB3FDC
علي أنوزلا

صحافي وكاتب مغربي، مدير ورئيس تحرير موقع "لكم. كوم"، أسس وأدار تحرير عدة صحف مغربية، وحاصل على جائزة (قادة من أجل الديمقراطية) لعام 2014، والتي تمنحها منظمة (مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط POMED).