حتى لا ننسى معتقلي "حراك الريف" المغربي
أعاد العفو عن مجموعة من معتقلي الرأي في المغرب، من بينهم ثلاثة صحافيين بارزين، نهاية الشهر الماضي (يوليو/ تموز)، التذكير بقضية معتقلي ما يُعرف في المغرب بحراك الريف، نسبة إلى منطقة الشمال المغربي التي تُعرف جغرافياً بسلسلة "جبال الريف". ويتعلّق الأمر بقادة الحراك الشعبي الذي عرفته مدينة الحسيمة، عاصمة المنطقة، ما بين عامي 2016 و2017، إثر مقتل شابّ بائع سمك فُرم داخل حاوية نفايات، لأنّه خرق قانون الحظر البيولوجي للصيد، ما أدّى إلى خروج احتجاجات شعبية للتنديد بالحادث. وسرعان ما تحوّلت إلى حراك شعبي، امتدّ ليشمل المنطقة كلها، واستمرّ عدة شهور يرفع مطالب اجتماعية في منطقةٍ عانت من تهميش تاريخي منذ استقلال المغرب. وخوفاً من انتقال عدوى الحراك إلى باقي مناطق المغرب المنسيّة، وأمام تعاظم مدّه، لجأت السلطات في المغرب إلى المقاربة الأمنية لوضع حدٍّ له، من خلال القمع والاعتقالات والمحاكمات. وكان قادة الحراك والناشطون داخل صفوفه أول من اعتقلوا. وبعد محاكمات ماراتونية، عرفت عدة تجاوزات سجلتها هيئات حقوقية مغربية ودولية، صدرت أحكام ثقيلة على كل المدانين، ونزلت أقسى تلك الأحكام على رؤوس قادة الحراك، ما بين 20 و15 و10 سنوات سجناً نافداً، قضوا منها سبع سنوات ونيف.
كانت الغاية من تلك الأحكام القاسية تخويف المتظاهرين في كل مكان في المغرب، واتخذت صبغة انتقامية خاصة، بعد المرافعات القوية للمعتقلين ودفاعهم أمام المحكمة، وبفعل الصمود الأسطوري للمعتقلين وأسرهم التي آزرتهم، وآمنت ببراءتهم، وظلت تدافع عنها رافضة كل أنواع التوسّل والاستعطاف لاستدرار الرحمة والعفو والغفران. وبالرغم من أن هذه القضية لم تغب قط عن النقاش العام في المغرب في مواقع التواصل الاجتماعي، إلا أن سنوات السجن السبع جعلت التفاعل معها يتراجع أمام إكراهات الحياة وتطوّرات الأحداث المتلاحقة داخل المغرب وخارجه. لذلك، جاء العفو أخيراً عن معتقلي الرأي ليعيد إلى الواجهة قضية هؤلاء المعتقلين، خصوصاً بعد استثنائهم من العفو الصادر عن العاهل المغربي محمد السادس.
يتعلق الأمر بستة شبّان، يمثلون قادة الحراك، في مقدمهم ناصر الزفزافي، الشاب العصامي الذي تحول إلى "قائد الحراك"، وقد عُرف بخطبه القوية والتلقائية التي كانت تلهب جماهير الحراك، وتخرج المسيرات بعشرات الآلاف من المحتجين، تعرّض للتعذيب في أثناء اعتقاله، وحكى ما تعرّض له أمام هيئة المحكمة، بما في ذلك محاولة اغتصابه، كما تعرض للتشهير به داخل زنزانته، عندما نُشرت صورته شبه عارٍ في مخفر الشرطة، على مواقع متخصّصة في التشهير بالمعارضين السياسيين، مقرّبة من أجهزة المخابرات المغربية، وأمام المحكمة حوّل قاعتها إلى منبر للدفاع عن مطالب الحراك الاجتماعية، مكرّراً القسم الذي كان يختم به تجمّعاته الجماهيرية بأنه لن يخون، ولن يبيع مطالب الجماهير، حتى لو دفع ثمن ذلك غالياً من حياته، وهو ما أثبته صمودُه كل هذه السنوات داخل السجن الذي حُكم عليه بالمكوث فيه 20 عاماً.
قرار العفو الذي استثنى معتقلي حراك الريف، وخصوصاً الأسباب وراء هذا الاستثناء، هو الذي جعل قضيتهم تعود بقوة إلى النقاش العام في المغرب
الرقم الثاني من بين القادة المعتقلين هو "دينامو" الحراك، نبيل أحمجيق، المحكوم عليه 20 سنة سجناً نافذاً، شاب في مقتبل العمر، كان يُعتبر مفكّر (ومنظّر) المجموعة التي قادت الحراك، ظل قليل الظهور في أثناء فترة التظاهرات، لكنه كان بمثابة العقل المدبّر تنظيمياً ولوجيستيكياً، وقد أعطى للحراك الذي اندلع تلقائياً بسبب حالة الغضب التي انتابت سكّان البلدة عقب الموت المفجع لبائع السمك، حمولةً فكرية وسياسية واجتماعية جسّدتها الشعارات التي كان ترفع خلاله، وحالة السلمية والتنظيم التي تميّزت بها مسيراته التي كانت تحرص على حماية الممتلكات العمومية، وضبط الأمن داخل صفوف المتظاهرين، واحترام حرمة النساء المتظاهرات من كل أنواع التحرّش أو الإيذاء، وتنتهي بتنظيف الشوارع وتزيينها.
أما المعتقل محمد جلول، الذي يعتبر أقدم معتقلي "الربيع العربي" في المنطقة العربية، فقد اعتُقل عام 2012 في بلدته بني بوعياش التي تبعد بضع كيلومترات جنوب مدينة الحسيْمة، معقل الحراك، ووجّهت له تهمة التظاهر في الشارع العام، وحكم عليه بالسجن خمس سنوات نافذة. وعندما استنفد مدة محكوميته أطلق سراحه عام 2017، وصادف خروجه من السجن وجود "حراك الريف" الذي بلغ أوجه في النصف الأول من تلك السنة، فاستقبل جلول استقبال الأبطال من نشطاء الحراك، وتحوّل إلى أيقونة الشباب المتظاهر. وعندما بدأت الاعتقالات في صفوف قادة الحراك وناشطيه، كان جلول من أبرز من اعتقلوا، وأعيد إلى السجن، بعد شهرين على خروجه منه، وحكم عليه مع قادة الحراك، عام 2017، بعشر سنوات سجناً نافذاً، قضى منها إلى الآن سبع سنوات، ليكون أقدم معتقل سياسي من شباب الحراك، ومن معتقلي ثورات الربيع العربي، وقد فاق عدد السنين التي قضاها في السجن 12 سنة ونيف، متجاوزاً بذلك عدد السنوات التي قضاها ويقضيها المعتقلون السياسيون، في مصر، المسجونون منذ 2013 بعد الانقلاب العسكري على ثورة 25 يناير.
من دون أن ننسى باقي المعتقلين الثلاثة، سمير أغيد المحكوم عليه 20 سنة سجناً نافذاً، ومحمد الحاكي وزكرياء أظهشور المحكوم عليهما 15 سجناً نافذاً لكل منهما، ولكل واحد من هؤلاء قصته التي لا تقل إثارة ودراماتيكية عن قصص القادة الثلاثة الآخرين، إذ حوّلهم صمودهم البطولي داخل السجن إلى أبطال في نظر سكان منطقتهم.
صنعت أخطاء الدولة وأجهزتها ومؤسّساتها من شبّان يافعين خرجوا إلى التظاهر للمطالبة بمستشفى وجامعة وفرص للشغل أبطالاً حقيقيين
التذكير بهؤلاء المعتقلين ومعاناتهم داخل سجونهم لم يغب يوماً عن مواقع التواصل الاجتماعي في المغرب، لكن قرار العفو الذي استثناهم، وخصوصاً الأسباب وراء هذا الاستثناء، هو الذي جعل قضيتهم تعود بقوة إلى النقاش العام في المغرب، أولاً، لأنهم معتقلون سياسيون بامتياز، تبنّت ملفاتهم منظمّات حقوقية مغربية ودولية، مشهود لها بالمصداقية، وصدرت لصالحهم مقرّرات أممية تعتبر اعتقالهم ومحاكمتهم وسجنهم أفعالاً تعسّفية، وتطالب بإطلاق سراهم فورا. ثانياً، لأنهم رفعوا مطالب اجتماعية بالدرجة الأولى، وأبانوا طوال فترات احتجاجهم ومحاكماتهم واعتقالهم عن وعي مدني وسياسي وحقوقي رفيع، جعل ناساً كثيرين تتعاطف معهم. وثالثاً، لأن لا شيء يبرّر اليوم استمرار اعتقالهم بعد أن أفرج عن معتقلي الرأي وعن الصحافيين الذين انتقدوا تعاطي الدولة مع قضية الحراك، واعتقلوا أصلاً، من بين أسباب أخرى، بسبب دفاعهم عن الحراك وقادته. وأخيراً، لأن التبرير غير المعلن عنه، لعدم إطلاق سراحهم، والذي يُعزى إلى شعبيّتهم، أدى إلى ارتفاع منسوب هذه الشعبية على مواقع التواصل، وبالتالي، المبرّر المفترض لإبقائهم في السجن كان له مفعول عكسي، وكلما طال أمدهم وراء القضبان زادت شعبيتهم وزاد تعاطف الناس مع قضيتهم.
لقد صنعت أخطاء الدولة وأجهزتها ومؤسّساتها من شبان يافعين خرجوا إلى التظاهر للمطالبة بمستشفى وجامعة وفرص للشغل أبطالاً حقيقيين، وحوّلتهم مظلوميتهم والأحكام القاسية التي لم تراع عنفوان شبابهم، والصمود الكبير الذي أبانوا عنه هم وعائلاتهم، رغم كل محاولات التشهير بهم وإذلالهم وتحطيمهم معنويا ومادّيا، كل هذه الأمور مجتمعة صنعت منهم أيقونات حقيقية، وكلما استمرّ اعتقالهم بمبرّرات واهية رفع من منسوب مظلوميتهم وزاد من شعبيتهم، فإطلاق سراحهم اليوم قبل غدٍ أصبح ملحّا، بعيداً عن كل الحسابات السياسية والسياسوية الضيقة، تمليه اعتباراتٌ لا يفهمها سوى أصحاب المروءة والأخلاق العالية. أما من يتحلّون بأخلاق العبيد، ومن بينهم رجال دولة ومحسوبون على الصف الإسلامي، فضلاً عن جوقة من طبَّالي السلطة ومرتزقيها، يبرّرون استمرار اعتقالهم حتى يستجدوا العفو، أو في انتظار أن ينزل مؤشّر شعبيتهم المغروسة في قلوب المتعاطفين معهم، فهؤلاء لا تهمّهم سوى مؤشّرات أرصدتهم عند السلطة يسبّحون بحمدها أينما ولت وجهها.