حِمص في ثوب إشبيلية.. هل يحقّ الرثاء؟

28 سبتمبر 2014

آثار قصف مسجد خالد بن الوليد في حمص (4يونيو/2014/أ.ف.ب)

+ الخط -

لعله التنبؤ بما يحدث في حمص السورية، الآن، هو الذي جعل أبا البقاء الرندي يرثيها مبكّراً في ثوب أشبيلية، قبل قرون، في نونيته الشهيرة، بعد سقوط آخر معاقل الأندلس عام 1492، وأفول الدولة هناك. واستلاف اسم حمص لأشبيلية جاء نسبة لنزول جند الشام فيها، ولأنّ غالبية شعبها من أهل حمص.

وحمص قبل بقية المدن السورية هي التي وصل إليها صدى أطفال درعا الذين اعتقلهم أمن نظام بشّار الأسد، إثر كتابتهم على جدار مدرستهم، مطالبين بالحرية وإسقاط النظام في 26 فبراير/ شباط 2011، والرثاء المستحقّ للمدينة التي تكفّن يومياً أطفالها الشهداء، مثل بقية المدن السورية، وفيها يتجلّى جبروت الأسد تجاه الأطفال في مساواته بين طغيانه وبراءتهم. كما تستحق المدينة هذا الرثاء المبكّر، وهي تتلقّى ضربات القوات الحكومية وعملياتها العسكرية ضد أحيائها المحاصرة، لاحتوائها على آخر معاقل المعارضة المناهضة لنظام الأسد.

وقف الغرب منذ اندلاع الحرب السورية متردداً وحائراً، ليس بسبب المواقف وحدها، وإنّما بسبب اتخاذ قرارات ناجزة. وهذا عين ما جاءت به هيلاري كلينتون في كتابها "خيارات صعبة" أخيراً، أنّه من النادر إيجاد الحل المناسب للمشكلات الشائكة. وفي حال كانت هذه المشكلات شائكة، فلأنّ كل خيار يتم التطرق إليه يبدو أسوأ من الذي يليه. وهذا ما ظهر في سورية، أو ما كبح تحركات أوباما نحو تسليح المعارضة السورية، على الرغم من تأييد وزيرة الخارجية الأميركية السابقة منذ البداية لذاك الاتجاه.

تعتقد أميركا أنّها تدفع ثمن التأخر في تسليح المعارضة السورية مبكراً، بمواجهة تنظيم داعش حالياً، وليس إلحاح هيلاري كلينتون وحدها، وإنما وزير الدفاع الأميركي السابق، ليون بانيتا الذي أوضح قلق أوباما، ومخاوفه من تسليح المعارضة السورية كان يكمن في احتمال وصول تلك الأسلحة إلى المخربين، وليس إلى قيادات المعارضة.

فاق تردد الولايات المتحدة كل موقف اتخذته، أو جابهت به ما حدث في بلدان الربيع العربي، أوان تحولاتها السياسية من ديكتاتورية إلى ديمقراطية، وحتى ردتها إلى معاقل الديكتاتورية مرة أخرى. فبعد مرور نحو أربعة أعوام منذ بزوغ فجر الربيع العربي، وما زال الاحتمال بأن تشهد سورية أمد حرب طويلة قائماً. وربما تحضر تجربة حرب العراق عام 2003، وعواملها الخارجية التي أشعلت نيران الفرقة الطائفية، وقد فاقه مارد الاختلافات في حالة سورية، وخرج من قمقم الداخل، ولم تقصّر الجهات الخارجية بصبّ الزيت على النار. وتتكرّر التجربة المرّة، على الرغم من اختلاف التفاصيل مع فتور الدعم لمحاولات تغيير النظام، فتهيئ الساحة لاندلاع حرب مطولة.

وإن كانت ثورات الربيع العربي هزة على السطح، بتعبير كارل ماركس في وصفه ثورة 1848، فإنّ الثورة في سورية فجّرت هذا السطح، حتى خرج مارد الاختلافات والانشقاقات، وبدلاً من ديكتاتورية واحدة تولدت ديكتاتوريات. وبدلاً من معارضة واحدة، تشعبت قوى المعارضة، حتى بات الغرب يتفنن في التسميات والنعوت قبل دعمها وتأييدها في ظلّ أوضاعٍ هي الأشد عنفاً بين ثورات الربيع العربي.

ومثلما يستدعي الغرب عموماً في إطار دعمه الثورة والمعارضة السورية آمالاً عريضة في أذهان الشعب السوري، باستبدال النظام الحاكم بآخر ديمقراطي، فإنّ الولايات المتحدة، في المقابل، تضع بديلاً غير مرضيٍّ عنه. لم يظهر البديل إلّا حينما تعذّر المطلب الأول، وتبدّى ذلك في الحفاظ على النظام السوري، شريطة أن يكون مستقراً، ولا تهيمن عليه روسيا أو إيران، وأن يحفظ سلامة إسرائيل. ولعل أوجه التردد في دعم أميركا المعارضة السورية، وتأخر تسليحها هو كذلك بالنظر إلى التركيبة السورية، المنقسمة طائفياً بين سنة وشيعة ومسيحيين ودروز، ولكل من هذه الطوائف أذرع أخطبوطية، تمتد على اتساع الإقليم.

ينقسم الغرب حيال تسليح المعارضة السورية إلى مؤيدين ورافضين. ففي حين وافق مجلس الشيوخ الأميركي، أخيراً، على مقترح الرئيس الأميركي، باراك أوباما، بتدريب المعارضة المعتدلة في سورية وتسليحها، رفضت الحكومة الألمانية التي أعربت عن خشيتها من وقوع السلاح في أيدٍ خاطئة، وهي تعني، بلا شك، التنظيمات الإرهابية. وبررت ألمانيا تمويلها تسليح الأكراد شمال العراق بأنّ إمكانية أن يضلّ السلاح طريقه إلى هدفه أقل في حالة العراق من سورية.

شكّلت الثورة السورية التحدي الأصعب للغرب، وما زالت سورية بانتظار دعم وأمل يخرجها من وهدتها وشتاتها. وشكّلت حمص، وما تزال، أحد أهم المسارح التي سيخلّدها التاريخ، ليحكي عما حل بأهل سورية، وإن ذُكرت على شكل مناجاةٍ في مرثية الأندلس، فإنّها تُظهر الألم بكل عناصره في ثنايا كلماتها الباكية، وحنايا معانيها وصورها المترعة بالأسى.

مدينة ابن الوليد، الآن، محرومة من مجرّد إغفاءة، وتكتفي برقادها على ضفة نهر العاصي، ترقب تسليح معارضتها، المسار الذي تأخر كثيراً. وبدلاً من أن تتجنّب سورية الانزلاق من بوابة حمص في فخ الدولة الفاشلة، قادتها عاصمة الثورة، نفسها، إلى حتفها، ببثّها أماناً مفقوداً لا يجده بنوها في أضيق حاراتها.

8615DCBC-E386-43F8-B75E-8FF0C27360A3
منى عبد الفتاح

كاتبة صحفية من السودان. حاصلة على الماجستير في العلوم السياسية. نالت دورات في الصحافة والإعلام من مراكز عربية وعالمية متخصصة. عملت في عدة صحف عربية. حائزة على جائزة الاتحاد الدولي للصحفيين عام 2010، وجائزة العنقاء للمرأة المتميزة عام 2014.