حين ينزل الجميع إلى الشارع

18 يناير 2015

حشد في مسيرة باريس ضد الإرهاب (11 يناير/2015/Getty)

+ الخط -
منذ ظهور أولى مظاهرات تونس، باكورة لثورتها، بدأ "الشارع" يحتل حيزاً في الوجدان الشعبي والعام، فضاءً وخياراً ورمزاً متجسداً، بعد أن كان متخيلاً أو مأمولاً. وبدأ الانحياز للشارع عفوياً، لا يحتاج لكثير تفكير وتساؤل. صار الشارع نقيض القصر الجمهوري ووزارة الداخلية وأقسام الشرطة ومقرات الأحزاب، وتركّز كتعبير عن إرادة الجموع، عن بيت الشعب ومجاله الحيوي.
بمضي الوقت وتعاقب التغيرات، وسط قناعة الجميع بالإجماع على الشارع، بل والافتتان برمزيته وموقعه ودوره، بدأ الشارع يتركز أيضا حيزاً للاستخدام والتنافس والانتهاز، بدءا بموجة فنية تدّعي في كل ما تقدمه انتماءها للشارع، موسيقى ومسرح وسينما وفنون بصرية وغيرها، وصولاً إلى التسويق التجاري الإعلاني للمنتجات، عبر ربطها بالشارع وقيمه. وهذا التسابق نحو الشارع كان يعني أن شرعية ومقبولية تمنحها حالة الشارع المضافة إلى أي منتج، فكرة أو سلعة أو جماعة.
وبالنظر إلى ما تغيّر على الشارع في السنوات الماضية، يمكن التوقف عند مفاصل شكّل المرور بها مناسبة لإعادة نظر أو تقييم لشرعية الشارع، وتخليصه من الأبعاد الرمزية الشاعرية، وإعادة النظر إليه فضاء للصراع والمواجهة، أو حالة غير مكتملة. مع التأكيد على أن التكثيف الهائل في الأحداث والتغيرات لم يسمح بعمليات بتقييم وإعادة تقييم هادئة للعلاقة مع الشارع، وفهم عام أكثر موضوعية له.
كان وجود النظام بكل قواه في مواجهة مع الجماهير في الشارع بسيطاً ومفهوماً، حتى ظهور أعوان النظم المستبدة، وتحديداً الوجه المدني للقوى الأمنية، من عرفوا بالشبيحة والبلطجية وغيرهم، أو وجه الشبكة المصلحية والاجتماعية والزبائنية والأمنية للنظام. كان هذا الظهور وبحجمه الهائل، وسط صراع على الشارع، وتمكّنه، في مراحل كثيرة، من السيطرة على الشارع في ما يشبه التظاهرات والاعتصامات العنيفة. كان نقطة مهمة لفهم أن حالة الصراع أوسع من حصرها بشخص الديكتاتور أو وزارة الداخلية وقوى الأمن، والشارع يتسع لوجه النظام الآخر الممثل بتلك الجموع مدنية الطابع، أو شديدة الشبه بالجماهير.
ثم جاءت المرحلة المفصلية الثانية عند وضوح الجانب الجماهيري والشعبي في الثورة المضادة. حينها، تم استخدام كل الرمزيات والغنائيات المتصلة بالشارع، وبطرق وأساليب تكاد لا تختلف عن الحالة الثورية الأولى، لصالح أنصار نظم ما قبل الثورة، حينها ظهرت مقاربات "الشارع في مواجهة الشارع"، وبدل النظر إلى الشارع فضاء صراع، بدا وكأن هنالك شارعين يتواجهان وسط زعم متبادل بالشرعية واحتكار حالة الشارع. وبدا أن التهليل لمجرد رؤية الناس يتظاهرون اختفى، وصار لزاماً أن تعرف من هم ولماذا هم هنا وماذا يقولون.
أخيراً في باريس، كان اضطرار الرؤساء المتضامنين مع فرنسا للخروج في تظاهرة، وتجريب السير في الشوارع كأنهم مواطنون عاديون، كاريكاتورياً إلى حد بالغ. ومع الإقرار بسياق الشارع المختلف في السياق الأوروبي، والفرنسي تحديداً، عن النقاش العربي، إلا أن حالة الشارع تفشّت، بعد الربيع العربي، إلى العالم الصغير، وكانت التظاهرة، في أحد أوجهها، دفعا للناس نحو الشارع، لمنح مسعى حكومتهم شرعية، وإضفاء شرعية شعبية على شخوص الزعماء السياسيين ومساعيهم. وسط القناعة التامة بالانتهازية والاستغلال لدى السياسيين حين لعبوا على وتر "الشارع"، وتزاحموا فيه للظهور في عدسات الكاميرات.
اليوم، وعلى الرغم من هذا المآل لفكرة الشارع كان مسارا محبطا جلّابا لويلات كثيرة عربياً، إلا أنه، في جانب آخر وإيجابي، أكسب الجماهير وعياً أوفى بما هو الشارع، وأي شارع يريدون. إن القناعة بأن الشارع ميدان مواجهة مستمرة يخوضها الشعب لتأكيد سيطرته على فضاءاته العامة المادية والمعنوية، ستغني عن التصورات الجزئية والمرحلية والشعرية تجاه الشارع، وتجنّب الشعوب كثيراً من محاولات الفهم والتفسير، حين يجدون أعداءهم ومستبديهم يستخدمون ما يفترض أنه ما للشعب وتعبير عنه.
2BB55568-EFEE-416B-934D-5C762181FE7F
عبّاد يحيى

كاتب وباحث وصحفي من فلسطين