"النظام" اللبناني و"الدنيا" المصرية

30 اغسطس 2015
+ الخط -
ثمّة ظاهرة مهمة في الغناء الشعبي المصري، وهي ثيمة وموضوع متكرر بشكل لافت من ناحية المقاربة، وتشابهها بين كثيرين من مؤلفي الأغاني الشعبية ومغنيها، يمكن وصف الأمر بتمركز "الدنيا" كمخاطب وموضوع توجيه لشكوى واللوم والتحسر والرجاء. أي اعتبار "الدنيا" بمثابة الفاعل الرئيس في حياة صاحب الأغنية، وهي، بالتالي، موضوع خطابه البائس أو المستسلم، وهي أيضاً مسبب ما هو فيه من حالة تيه وضياع واستسلام.
التشكي من "الدنيا" واتهامها، يتكاثر في الأغنية الشعبية من دون تحديد واضح لما هي هذه "الدنيا"، خصوصاً حين تغدو الشكوى في قضايا محددة، مثل الفقر أو هجر الحبيب أو الظلم أو حتى التوتر النفسي والاكتئاب وغياب السعادة. واللافت أن "الدنيا" تصبح السبب والمتهم وموضع الرجاء في حالات يمكن العثور، ببساطة، على المسبب والمتهم. مثلاً، يمكن استبدال كلمة الدنيا، في حالات كثيرة، بمفردات من قبيل "الظالم" أو "السلطة" أو"الدولة" أو "القدر" أو "الدين" أو "المجتمع"، وستحتفظ الأغنية بمعناها، بل وستغدو أوضح. لكن ذلك لا يحدث. ولذلك، لا ترتقي الأغنية من كونها مجرد تحسر غنائي استسلامي، إلى حالة نقد اجتماعي أو سياسي أو غيره.
في أحيان كثيرة، يبدو جليا أن المشكلة ليست في قدرة صاحب الأغنية ومرددها على تحديد مصدر شقائه، فهذا ممكن وسهل، بل المشكلة في عدم وجود نية أو جرأة على التحديد. وإن شئنا نقل النقاش إلى مستوى آخر يمكن القول إن بقاء الأمر عائماً بهذه الطريقة ووجود متهم مائع مثل الدنيا، مريح للجميع، للمتهمين والنادب الجبان.
في لبنان، ومع تصاعد المظاهرات الاحتجاجية الأخيرة، قبل أيام، والأمل ببداية تشكل حالة احتجاجية، مختلفة عن احتفاليات المليونات التي بدأها لبنان قبل الجميع بعد اغتيال رفيق الحريري، ظهر في الخطاب الإعلامي اللبناني، بمختلف أشكاله وموجهيه، شيء شبيه بـ "الدنيا" في الأغنية الشعبية المصرية.
"النظام" هو المعادل اللبناني لـ"الدنيا" في الأغنية المصرية، وبقدر ما تبدو مفردة "النظام" حمالة لمفارقة في الحالة اللبنانية، إلا أنها حاضرة بقوة في السجال حول التظاهرات، واللافت أن الكل يريد إسقاطه ويهاجمه، وعلى رأسهم رموز هذا النظام والقائمون عليه. أما لماذا يهاجمونه؟ فلأنه بدون معنى، ولا يحمل أي صيغة تحديد يمكن أن تقول بوضوح من هم المتهمون في كل ما يحصل لشعب يمتلك طاقة عجيبة في النهوض، بعد كل مأساة.
في اللحظة الأولى التي قال فيها التونسيون إن "الشعب يريد إسقاط النظام"، كان "النظام" يحمل معنى محددا، وحتى اتساع مضامين المفردة كان مفيداً في تلك اللحظة، كانت عامة لتشمل الكثير، ولتقطع مع التسويات ومحاولة تخفيف غضب الجماهير بصفقات جزئية، يعزل فيها وزير أو تشكل لجنة تحقيق. أما اليوم وفي حالة لبنان، يشي الاستخدام المفرط للمفردة، من كثيرين، يعلم الجميع أنهم متورطون بالحال المزرية للبنانيين، بالسعي إلى تمييع الحراك المطلبي، وتحويله إلى طقس باهت يشبه شكوى الجميع من النظام الطائفي كأنه قدر لا يمكن الفعل حياله.
اليوم وبعد سنوات من الفعل الاحتجاجي العربي، لا بد لأي موجة احتجاج جديدة أن تستقي دروسها من تجارب الاحتجاج المريرة، وتحديداً الدروس البسيطة التي يمكن أن يدركها الجميع، ولا تحتاج لتبلور قيادة للاحتجاجات لتعبر عنها وتنقلها للناس، بل يمكن إدراكها بحس المتظاهر السليم، وربما أهمها، في الحالة اللبنانية، تحديد المستهدفين بهذا الحراك، تحديدهم بالأسماء والصفات والجماعات واتهامهم. و"الاتهام" ليس مفردة قانونية هنا، بل هو وعي جمعيّ يدرك أن "النظام" مفردة ذات دلالة، لم تبلغها الكيانات الجاثمة على صدور الشعوب العربية. ولذلك، ربما يتورط الجميع في حرب ضد الجميع، وهم يبحثون عن ذاك "النظام" الذي يريد بعضهم إسقاطه، ويريد بعض آخر حمايته.
2BB55568-EFEE-416B-934D-5C762181FE7F
عبّاد يحيى

كاتب وباحث وصحفي من فلسطين