حلايب ... مساومة تحت ظلال المخاوف

01 أكتوبر 2016

تمثل حلايب عمقاً استراتيجياً مهماً لحماية حدود مصر الجنوبية

+ الخط -
مرة أخرى، تطفو قضية مثلث حلايب، المتنازع عليه بين السودان ومصر، على سطح الأحداث. وما بين حساسية التوقيت بالنسبة للبلدين واستبعاد عنصر المصادفة في فتح ملف القضية، كلما تمّ التعتيم عليه، يبرز سؤال بشأن الخيارات المتاحة المطروحة: التحكيم الدولي، أو استفتاء أهالي المنطقة لاختيارهم الانضمام لأيٍّ من البلدين، أو جعل المنطقة منطقة تكامل اقتصادي بينهما. الإجابة من الصعوبة بمكان، خصوصاً مع وجود هوّة بين التصورات السودانية ونظيرتها المصرية المتمثلة في اتهامات ودفوعات متبادلة. ويزيد تعقيدات المشكلة أنّها تتجدد في عهد رئيسي بلدين استوليا على الحكم في انقلابين عسكريين على حكومتين ديمقراطيتين. ويوماً بعد يوم، تتسع التيارات الشعبية المعارضة لسياستيهما البلدين.
الموقف السوداني شقان، شعبي يرى أنّ سكان المنطقة الأصليين، منذ فجر التاريخ، هم قبائل البجا البشاريين الذين تروي كتب التاريخ ومدونات الرحالة قصص حروبهم وتحالفاتهم مع الممالك القديمة، بينما الموقف الرسمي يلتزم الصمت فيما يخص هوية مثلث حلايب. وعندما لوّح "مؤتمر البجا" بمقترحاته الثلاث، أعلن الرئيس السوداني عمر البشير عند زيارته ولاية البحر الأحمر "سودانية المنطقة"، على الرغم من تذبذب التصريحات الرسمية الأخرى.
يرى السودان أنّ حقه الفعلي في إدارة المنطقة منذ العام 1902 يخوّل له السيادة على مثلث حلايب، بناءً على مبدأ الحيازة الفعلية بالتقادم، خصوصاً أنّ مصر ظلت راضية بذاك الوضع، ولم تعترض عليه قبل استقلال السودان عام 1956، وفي أثناء الوجود البريطاني في السودان، فتلك الحدود تعتبر ميراثاً استعمارياً، تم التوافق على الحفاظ عليها كما هو متعارف عليه في مواثيق المنظمات الدولية، وكما تم إقراره في مؤتمر الرؤساء والقادة الأفارقة في القاهرة عام 1964. بالإضافة إلى أنّ للمنطقة أهمية استراتيجية للسودان، نابعة من موقعها باعتبارها عاملاً مهماً للحفاظ على ما تبقى من السودان، خصوصاً بعد انفصال الجنوب في استفتاء عام تم في يناير/ كانون الثاني 2011. بينما تؤكد مصر أن تعديلاتٍ جرت على الحدود المشتركة بينها وبين السودان، لتسهيل حركة سكان المنطقة على جانبي خط عرض 22 درجة شمال، إلّا أنها تدمغ هذه التعديلات بأنّها مجرّد قرارات إدارية، يمكن تعديلها وفقاً لظروف المنطقة، كما أنّ مصر لم يكن في وسعها الاحتجاج على تلك القرارات في ذلك الوقت، إلّا بعد موافقة من الدولة العثمانية.
وبالنسبة لفكرة الحيازة بمبدأ التقادم، ترى مصر أنّه يمكن الطعن في قانون الحيازة بثغرات تتعلق بالمدة الزمنية، وصحة القانون نفسه. وتدفع آراء مصرية بأنّ المنطق يقول إنّه في ظل تمسك السودان بحيازته بالتقادم على منطقةٍ مساحتها 580,20 كيلومترا مربعا، فما المانع من أن تطالب مصر بحيازة السودان بكامله، لأنّه كان تابعاً للسيادة المصرية التركية.
تنبع أهمية منطقة حلايب لمصر باعتبارها تمثل عمقاً استراتيجياً مهماً لحماية حدودها الجنوبية المكشوفة على ساحل البحر الأحمر، والتي قد تعرّض أمنها القومي للخطر، بالإضافة إلى أهميتها التجارية والاقتصادية للبلدين.
على الرغم من أنّ السودان ومصر قامتا بتعديل للحدود في فترات تاريخية معينة، مثل تعديل حدود مصر مع ليبيا وتعديل حدود السودان مع زائير وأوغندا وإثيوبيا، إلّا أنّ كلتا من الدولتين، من منطلقات مصالحها، ترفض هذا الحل الآن، تاركة الباب موارباً لموازين المساومة السياسية.
وتنقسم موازين المساومة المعروفة في العلاقات الدولية إلى ميزان القدرات (عسكرية 
واستراتيجية)، ميزان المخاطرة باتخاذ قرار وقفاً لتبعاته، ميزان الإدراك الداخلي الذي يتعلق بمدى الاهتمام بالشرعية السياسية لمتخذ القرار في الداخل، ميزان احتياج الدولة من موارد وإمكانيات مختلفة، وميزان الحساسية وتعلقه بمفهوم صناعة الاختلاف في مجال القيم المشتركة. وإذا أرادت أيٍّ من الدولتين، أو كلاهما، أن تتخذ قرارها وفقاً لهذه الموازين، فعليها أولاً أن تتحسّس مواضعها.
وإن اتخذت الدولتان، أو أيٍّ منهما، مبدأ المساومة حلاً للأزمة، فذلك لا يمكن أخذه بمعزل عن مفهوم القوة والوزن السياسي للدولة، سواء كان ذلك نابعاً من قوتها العسكرية أو الاقتصادية، فالقوة بشقيها، صلبة أو ناعمة، تؤثر بفاعلية كبرى في الطرف الآخر، من أجل قبول تنازلاتٍ ما كان ليقبل بها في ظروف مغايرة. وإذا دخلت القوة والضعف على الخط، كأحد عوامل المساومة، فإنّها ستكشف عن مميزات وعيوب كلتا الدولتين في هذا المضمار. ففي حين نجد أنّ مصر تتميز بقوة عسكرية متوثبة، نسبةً لوضعها الجغرافي، ومهدّدات أمنها القومي، خصوصاً بعد النزاع مع إسرائيل على طابا، والذي انتهى لصالح مصر عام 1989، فإنّنا على الضفة الأخرى، نجد أنّ السودان يخف عنده ميزان القوة العسكرية، مع وجود ذهنيةٍ مشوشةٍ تختزن داخل ذاكرتها المثقلة بالحروب الأهلية مراراتٍ كثيرة.
وقبل اتخاذ القرار، متوقع ألّا يخرج مما وضعه تنظيم "مؤتمر البجا" من الخيارات الثلاثة أمام الحكومة السودانية. وهي إن كانت لجوءاً إلى التحكيم الدولي في لاهاي، أو إقامة استفتاء للشعب الموجود في مثلث حلايب، ليختاروا الانضمام للسودان أو مصر، أو جعل حلايب منطقة تكامل اقتصادية، فإن هذه الخيارات أحلاها مُرٌّ. فبينما تتخوف مصر من الذهاب إلى المحكمة الدولية، يتخوف السودان من اختيار أهالي المثلث الانضمام إلى مصر، بسبب تهميش الحكومة السودانية لهم، في مقابل اهتمام مصر بهم، فيما يتعلق بالخدمات الأساسية. وفيما يتعلق بمسألة التكامل، لم تبد مصر موافقة صريحة على مبدأ التكامل. وفي الجانب الآخر، يرى الرأي العام السوداني الفصل في مسألة السيادة على الأرض وإدارتها بقوات شرطة مشتركة من البلدين أولاً، قبل الشروع في التوافق على جعل مثلث حلايب منطقة تكامل.
لا يمكن إغفال الانشقاق الذي تنامى في تسعينيات القرن الماضي، وراكم سحباً كثيفة فوق علاقات السودان ومصر. وإذا اتجه البلدان نحو القوة الناعمة المتمثلة في التكامل الاقتصادي والتجاري لحل الأزمة، فهذا يتعدّى موازين القوة والضعف العسكرية إلى معيار أولي، هو تعظيم الفوائد، ما يبعد ويلات الحرب وشرورها، وتغليب عنصر العلاقات التاريخية والسياسية والاقتصادية الأزلية بين شعبي وادي النيل، فعلى الرغم من أنّ هذا النزاع ترك، ومنذ اندلاعه، بصماته الواضحة على العلاقات السياسية بين البلدين، فإنّ ما بين الشعبين المصري والسوداني هو مزيجٌ هائل وغير مرئي من المخاوف والعواطف.
8615DCBC-E386-43F8-B75E-8FF0C27360A3
منى عبد الفتاح

كاتبة صحفية من السودان. حاصلة على الماجستير في العلوم السياسية. نالت دورات في الصحافة والإعلام من مراكز عربية وعالمية متخصصة. عملت في عدة صحف عربية. حائزة على جائزة الاتحاد الدولي للصحفيين عام 2010، وجائزة العنقاء للمرأة المتميزة عام 2014.