حكومة الكفاءات والتخوّفات في تونس

29 اغسطس 2020

هشام المشيشي مترئسا اجتماعا لحكومته المقترحة في تونس (27/8/2020/الأناضول)

+ الخط -

بعد شهرين من الانتظار والتوقعات، أعلن رئيس الحكومة التونسية المكلف، هشام المشيشي، عن حكومته، وجاءت مطابقة لما أعلنه مسبقا، وكما توقعها التونسيون، حكومة كفاءات مستقلة عن الأحزاب. ضمت 28 حقيبة موزعة بين 22 وزيرا وثلاثة كتاب دولة ووزيرين معتمدين لدى رئيس الحكومة، وبذلك تكون الحكومة الأصغر عددا مقارنة بمجمل الحكومات التونسية منذ العام 2011. وتمثل حضور المرأة فيها في ثماني حقائب، وحافظت على أربعة أسماء من الحكومة المستقيلة، وواحد من حكومة يوسف الشاهد، وهو محمد الطرابلسي الذي وقع تكليفه من جديد بوزارة الشؤون الاجتماعية، وتم تكليف عاقصة البحري بوزارة الفلاحة وهي الحقيبة نفسها التي كلفت بها في حكومة الحبيب الجملي التي لم تنل ثقة البرلمان. وكانت وزارات السيادة الأربع من نصيب رئيس الجمهورية قيس سعيد، ووزراؤها من تلامذته المباشرين أو المعنويين. 

 شكل المشيشي حكومة كفاءات مستقلّة، نظرا إلى "الصراعات الكبيرة بين مختلف الأحزاب وعجزها عن التوافقات الضرورية الدنيا"

لم يطرأ تغيير على خيار المشيشي، والذي جاء في إعلان مقتضب منه يوم 10 أغسطس/ آب الحالي، فالحكومة التي كلّفه بتشكيلها الرئيس قيس سعيّد جاءت حكومة كفاءات مستقلّة، نظرا إلى "الصراعات الكبيرة بين مختلف الأحزاب وعجزها عن التوافقات الضرورية الدنيا"، غير أن المشيشي أكد، مرة أخرى، لدى إعلانه عن حكومته، رغبته في العمل مع البرلمان كمؤسسة، لا كمجموعة أحزاب، وطالبها بدعم حكومته ومساعدتها على إنجاز برنامج إنقاذ اقتصادي واجتماعي وطني. وبذلك صدم الأحزاب الوازنة في البرلمان، ووضعها أمام أمرين أحلاهما مرّ: القبول الجدّي والفاعل وتمكين الحكومة من الثقة أو عدم منحها الثقة وبالتالي الذهاب إلى انتخابات تشريعية سابقة لأوانها، حسب ما يقتضيه من الدستور. 

ورأت حركة النهضة، ومجمل المتحالفين معها، في حكومة الكفاءات المستقلة المعلنة، أو "حكومة الرئيس الثانية" كما يطلقون عليها، والتي جاءت نتيجة استقالة حكومة إلياس الفخفاخ وسقوط حكومة النهضة قبلها التي شكّلها الحبيب الجملي ولم تنل ثقة البرلمان، رأت أن هذا التمشي الذي اختاره رئيس الحكومة المكلف ألغى دور الأحزاب في الإنتقال الديمقراطي، وبالتالي دورها في خدمة الشأن العام. ورأوا فيه انقلابا على الديمقراطية، متسائلين عن جدوى الانتخابات! ما فجّر جدلا في المشهد السياسي والفضاء العام ومواقع التواصل الاجتماعي بشأن دور الانتخابات وما قدمته الحكومات المتعاقبة (وهي حكومات محاصصة حزبية) منذ الثورة للواقع المعيش للتونسيين. وفي هذا السياق، يرى النائب المستقل والوزير السابق مبروك كورشيد أن خيار تشكيل حكومة كفاءات مستقلة يبرّره تشتّت الأحزاب وصراعاتها، وهو نتاج النظام السياسي الذي يكرّس ديكتاتورية هذه الأحزاب في وضعٍ شبيه بنهاية الجمهورية الرابعة في فرنسا (1958) في عهد الجنرال ديغول، الموروث بدوره عن النظام السياسي الإنكليزي الذي يكرّس نظاما برلمانيا يتسم بسيادة مطلقة للأحزاب، من دون رؤية واقعية حقيقية. ويذهب خبراء في القانون والفكر السياسي في هذا المنحى، ويرون في الجدل القائم أن تشكيل حكومة كفاءات مستقلة عن الأحزاب لا يعتبر انقلابا على الديمقراطية والانتخابات، طالما أن الدستور التونسي ضبط المسألة، وأن ورئيس الجمهورية طبّق الفقرة الثانية من الفصل 89 بعد فشل "النهضة" في تمرير حكومة الحبيب الجملي، وهو (الرئيس) المؤهّل لتأويل الدستور في غياب المحكمة الدستورية التي غيّبتها الأحزاب الوازنة في البرلمان، فكانت أول المتضرّرين من غيابها.

يعيش التونسيون أوضاعا صعبة في تصريف شؤون حياتهم وضمان أمنهم الاجتماعي والاقتصادي

في خضم هذا الجدل، يعيش التونسيون أوضاعا صعبة في تصريف شؤون حياتهم وضمان أمنهم الاجتماعي والاقتصادي، فقد دعا اتحاد الصناعة والتجارة وأرباب العمل إلى تفعيل حالة الطوارئ الاقتصادية، من أجل حماية السيادة الوطنية، بعد تسجيل انكماش اقتصادي غير مسبوق لتونس، تجاوز نسبة 21%، وارتفعت نسبة العاطلين عن العمل بمائة ألف عاطل، لتصل نسبة البطالة إلى 18% من مجموع أهل العمل، علاوة على تداعيات جائحة كورونا وعلامات عودتها بقوة مع توقف إنتاج الفوسفات منذ ستة أشهر، وهزال الموسم السياحي، وتجاوزت المديونية العامة 80%، مع ما يدور من ضبابية بشأن إمكانية الوفاء بالتزامات تونس المالية لمختلف الجهات الدائنة.

حالة خوف عام أصبحت باديةً على الأحزاب ومؤسسات الدولة والسياسيين

وقد راكمت هذه المؤشّرات حالة الخوف العام التي زادت وطأتها تهديدات شق من السياسيين والأحزاب، بالسعي إلى إسقاط الحكومة الجديدة حال عرضها على البرلمان، أو في أول مناسبة بعد نيلها الثقة، لتكون حكومة زواج من أجل الطلاق، ليعود الوضع العام إلى مدارات الرعب. والمتوقع أن حكومة الكفاءات هذه، والتي تم توصيفها "حكومة الخوف" سيمنحها البرلمان ثقته، ليس حبَا فيها ولا تعاطفا مع رئيسها ووزرائها، ولا إيمانا برؤيتها وبرنامجها، ولكن نظرا إلى حالة الخوف العام التي أصبحت باديةً على الأحزاب ومؤسسات الدولة والسياسيين، بل وعلى التونسيين أنفسهم، ولعلها أصبحت سمة المرحلة، وذلك أمام سيناريو حل البرلمان، والذهاب إلى انتخابات تشريعية سابقة لأوانها، واستمرار حكومة تصريف الأعمال المستقيلة فترة لن تقل عن ثلاثة أشهر، في ظل نظام سياسي وانتخابي لا يمكن أن ينتج منظومة حكم سليمة، مع نوايا التصويت في الانتخابات التشريعية والرئاسية التي كشف عنها استطلاع آراء أخيرا، وأشارت إلى زلزال سياسي قادم في حال تم هذا، فقد تتغيّر مواقع أحزاب وتختفي أحزاب أخرى، ليتبدّل كل شيء في المشهد السياسي التونسي. 

هل ستتحكم توازنات الخوف هذه في منح الثقة للحكومة الجديدة من عدمها؟

35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
محمد أحمد القابسي

كاتب وأكاديمي وشاعر تونسي

محمد أحمد القابسي