حكومة العبادي و"الهرم المقلوب"
لا نريد أن نصدع الرؤوس بمشاعر "نوستالجية"، كالتي يغرق فيها العراقيون اليوم، كما لا نريد أن نماحك من يجزم أن النيات الطيبة وحدها هي التي تدفع العبادي إلى الحديث، بعد مائة يوم من تسلمه المسؤولية، عن "تحد وجودي" و"خارطة طريق" و"تحرير قرارات الدولة من أي نزوع فردي" و"عملية إصلاح جذرية بنيوية"، لكننا نريد أن نكشف ما هو خلف هذه التعابير والمفردات من تفصيل، لما يمكن ويريد العبادي أن يفعله، وهو محكوم بما يسميه "وضع العراق على الطريق الذي كان أساس العملية السياسية"، أي، بعبارة أوضح، اعتماد المحاصصة الطائفية التي بنيت عليها "العملية السياسية" أساساً في الحكم.
في هذا المآل، يسقط العبادي في التناقض، فهو يشير إلى "أن تصفية الطائفية من الحياة السياسية خطوة حاضنة لأي إصلاح وتقدم للبلاد، وهي ضمان الخروج من التشرذم والتصدع وتمزيق نسيج المجتمع العراقي، والمواطنة هي البديل عن كل الهويات الفرعية والولاءات المتخندقة، والهوية الوطنية العابرة للطائفية هي دعامة الإصلاح والتغيير والتقدم الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والسياسي"، لكنه، في التفصيل، يعرج على ما يسميه "حفظ حقوق كل مواطن ومكون وتجمع سكاني ... والعودة إلى المحافظات ونسبة السكان فيها، وتحديد العدد المطلوب من الوظائف... إلخ". بعبارة أوضح أيضاً، اعتماد "المحاصصة"، نزولاً إلى الوظائف الحكومية حتى الدنيا منها، وإعطاء المكونات والتجمعات (إقرأ: الطوائف والعشائر والمدن) حصتها من الوظائف العامة، بنسبتها من السكان!
هذا يعني أن المواطن العراقي سينسب إلى هويته الدنيا، كأن يكون شيعياً أو سنياً، أو مسيحياً، أو أيزيدياً، أو شبكياً، أو أن يكون من هذه العشيرة أو تلك، أو هذه المدينة أو غيرها، لكي يستطيع أن يحصل على حقه في وظيفة عامة، أو عمل ما، وقد يكون حتى الاسم الشخصي مدعاة لحجب حقه، ونعرف أن مواطنين عديدين شكوا من رفض طلباتهم للعمل في مؤسسة معينة، بسبب انتمائهم لطائفة محددة، كما نعرف آخرين لجأوا إلى القضاء لتغيير أسمائهم، لأن مجرد الاسم يشكل عائقاً في حصولهم على حقوقهم الطبيعية كمواطنين، بل إن واحداً ممن أعرف استبدل اسمه من (عمر) إلى (عمار)، لكي يحصل على حقه!
لنبق مع العبادي، وأيضاً لن نماحك من يجزم أن النيات الطيبة وحدها هي التي تدفع العبادي إلى الحديث عن "حلقات في سلسلة ممتدة من عملية التغيير والإصلاح"، فهذه "السلسلة" وضعت، للأسف، على هرم مقلوب، حيث اعتبر العبادي "إصدار النظام الداخلي لمجلس الوزراء" و"إلغاء مكتب القائد العام للقوات المسلحة"، و"إلغاء الألقاب" و"رفع الصور واللافتات من الشوارع والأماكن العامة والوزارات" من أولى "المنجزات" التي حققتها حكومته في مائة يوم!
ولكم نتمنى أن يرجع العبادي، وهو رجل علم ومعرفة، وخريج جامعة بريطانية عريقة، إلى نظرية أبراهام ماسلو الأميركي التي تتحدث عن احتياجات الكائن البشري الأساسية، وتدرجها الهرمي. عند ذاك، سيدرك أن مواطنه البسيط المغلوب على أمره لا يهمه "النظام الداخلي لمجلس الوزراء"، ولا حتى "مجلس الوزراء" نفسه، ما دام لا يحصل على كفاية عائلته من الغذاء والدواء والماء النقي والكهرباء، وما لم يتوفر له الأمن والأمان، والحماية المادية والمعنوية، وما لم يحصل على حقوقه الأساسية في الحياة الحرة الكريمة، والمساواة أمام القانون، وهو العارف، من مسؤوليته، أن سبعة ملايين من مواطنيه تحت خط الفقر، ومليونين بين نازح ومشرد في الداخل، وستة ملايين يعيشون في الخارج طلباً للأمان الذي افتقدوه في بلادهم!
وسيدرك أيضاً أن "إلغاء الألقاب" و"رفع الصور" لن يغير في الحال الماثل شيئاً، ولن يمنع رجال الطبقة السياسية الحاكمة من مواصلة نهبهم المال العام، وتمتعهم بامتيازات باذخة على غير وجه حق.
وفي المآل الأخير، نكتشف أن العبادي في طروحاته يستخدم الهرم مقلوباً، ويسبغ على ما قدمته حكومته صفة "الأولويات الناضجة"، أما التصدي للفقر والبطالة، وإشاعة الأمن والأمان، وتحريم الممارسات الطائفية، وتجريم مرتكبيها، فليست من "الأولويات"، وظروف مواجهتها لم تنضج بعد، ولماذا العجلة ما دامت أمامنا سنوات أربع، تتبعها أربع، وما دام البديل المنتظر تحول إلى ما يشبه صخرة سيزيف، تتدحرج كلما أوهمنا أنفسنا أنها استقرت على قمة الجبل، وحتى النيات الطيبة، فإنها لم تعد تكفي للعبور إلى وضع أفضل، خصوصاً وأن الطريق إلى الجحيم مسكون بمثلها دائما!