حكواتي النكبة: عن ظهر قلب ووهم

15 مايو 2014
منزل محمد هديب في فلسطين
+ الخط -

عشت في هذا البيت سنتين، وكلّي يعرفه، ما عدا الذاكرة الحاضرة. فالذاكرة التي تأتي هي ما يحضر غائماً في النوم ويفرّ خلسة، ويحضر في الجاثوم.

وصلتني هذه الصورة من مخيم عين السلطان. فشكراً من هنا في الدوحة حتى مخيّم عين السلطان، إلى السيدة النبيلة نادرة المغربي وقد تجشّمت عناء البحث والسؤال عن بيتي في المخيّم.

(مخيم عين السلطان أنشئ عقب نكبة 1948 في مدينة أريحا بفلسطين المحتلّة، وسكنه الناجون من مذبحة قريتي الدوايمة في 29 أكتوبر/ تشرين الأول 1948، وبقينا فيه حتى نكسة يونيو/ حزيران 1967 لنُطرد ثانية من المخيم إلى الأردن).

علّقت الوالدة خلاصة ابنها على الشجرة ثلاثة أيام حتى يعيش. بيد أنّ هذا لن يحمي الرضيع من مصير ثلاثة أشقاء ماتوا قبله، فقيل: افتحوا المصحف.. وسمّوني الاسم الذي ترونه في الفيس بوك.

في قيامة 1967، ما أحفظه، أحفظه عن ظهر غيب وقلب ووهم، لكنّني لم أقترب من هذه الكتابة، فأنا دائماً أقلّ منها.

والدي كان يعمل في العقبة. وأمي ونساء العائلة كلهنّ وكلّ العباد يهيمون كالفَراش، راجين ألا يقترب قصف الطائرات الاسرائيلية.

دربٌ واحدٌ لا يُرى الدوس عليه ولا يُحَسّ، إلى أن تأتي الشاحنات الاعتباطية. وليس لديهم خبرات واسعة في اللجوء. فهناك كلّ شيء يجري بسرعة: الحرب والذبح والتشرّد نحو مخيمات تُحَضَّر كالوجبات السريعة، وأقول: كالهزائم.

بسرعة تضيع البلاد كما تُفرَك حبّة الترمس بين اصبعين، وجنود من الجيش العربي (الأردني) على الطريق يترجّون مَن لديه شربة ماء. مَن لديه ماء قبل الوصول إلى الشريعة؟

مَن لديه ماء يوصلنا أبعد من يونيو/ حزيران أريحا، أخفض نقطة على وجه البسيطة وقد وقعت عليها القيامة من كل الجهات!

لا أعرف كم مشت أمي وعلى يدها شقيقتي وعمرها أربعون يوماً، وأنا محمول على ظهر شقيقي الذي يكبرني خمس سنوات.

بما تيسّر من غرائز بقي شقيقي يحملني ويركض في ذيل الأم.

في الشاحنة كان يفترض أن يكون شقيقي وأنا على ظهره، لكنّ الشاحنات التي تغادر ذاهلة تتركنا أنا وإياه وحدنا عند متنزّه أريحا.

أمّنا خلفنا كما يتمنّى المرء، وهي في الحقيقة كانت قدّامنا.

أطلنا الانتظار، وثمّة امرأة قالت للأم إنّ الولدين جالسان منذ زمن تحت الشجرة الطويلة.

التقطَنَا أبو عيسى الذي لم يفلح في العثور على أبنائه في المخيّم، وأركَبَنا على درّاجته الهوائية، ثم تركنا أمانة عندما صادف الحاجّ إسماعين وزوجته أمينة. هذه المرأة وصفتني قائلة: كانت شفتاه زرقاوين وشرب طاستي ماء.

أصيبت الأم بانهيارٍ وصمتٍ مزمن بدأ من مشيها الطويل في ناعور وهي تحدّق بين الناس، إلى انهيارها تماماً.

وبي رغبة مستبدّة لزيارة البيت. عرفت أنّه آيل للسقوط. وبي أملٌ أن يبعد الستالايت عن سطح البيت ما دام آيلاً للسقوط.

سأطلب منه أن أبيت فيه ليلة.

هناك ألبستني أمي التبّان الأبيض وطقّشت صدره بتطريز أزرق سماوي.

المساهمون