ما زالت عائشة عاشور تذكر يوم هجّرت من يافا (تبعد عن مدينة القدس نحو 55 كيلومتراً)، وكأنه أمس. بعد النكبة، أقامت في مخيم رفح (إلى الجنوب من غزة). وبعد أربع سنوات، انتقلت إلى مخيم خانيونس (على بعد نحو كيلومترين من شاطئ البحر الأبيض المتوسط إلى الشمال من رفح). إلا أن مشهد بناء وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" منازل صغيرة مؤقتة للاجئين لا يفارق مخيلتها. حينها، كانت ما زالت متفائلة بالعودة.
عاشور كانت تبلغ من العمر 17 عاماً عندما هجّرت من يافا. واليوم، بات عمرها 89 عاماً. تعود أصولها إلى قرية الخيرية (قضاء يافا). كانت تساعد والدها الذي كان يعمل مزارعاً ومتعهداً للأراضي، وقد تعلمت منه مهنة الزراعة. وفي قريتها، كانوا يزرعون البطيخ والطماطم والكوسا والقرع والفول والبامية والبازلاء والقمح والعدس، إضافة إلى خضرة وفاكهة موسمية.
حتى اليوم، تذكر عاشور قصف طائرات ألمانية مقرات الجيش الإنكليزي في مدينة يافا خلال الحرب العالمية الثانية، أيام الانتداب البريطاني لفلسطين. حينها، كانت تعمل في حراسة الأراضي الزراعية مع والدها، وتقول إن بعض العائلات اليهودية كانت قد هربت إلى قريتها للاحتماء. تزوجت وهي في الرابعة عشرة من عمرها في عام 1945، وأنجبت ابنها البكر محمد في قرية الخيرية، الذي عمل مدرساً في نهاية ستينيات القرن الماضي. وتتذكر كيف هجمت الهاغانا (منظمة عسكرية إسرائيلية لعبت دوراً عسكرياً كبيراً في تأسيس إسرائيل عام 1948)، والأرغون (منظمة صهيونية شبه عسكرية وجدت في الفترة السابقة لإعلان دولة الكيان الصهيوني)، على الفدائيين وبعض القرى الفلسطينية. كانت تعيش قرب مزرعة لشخص يدعى غنيم. وكان الفدائيون يرابطون في المساء تحت أشجار التوت، وكانت تمدهم بالماء والطعام.
تقول لـ "العربي الجديد": "كان الفدائيون يدافعون عن فلسطين ببنادق قديمة. كسرت بندقية أحدهم فربطها بسلك نحاسي. وفي الصباح، أخبرونا أن الجماعات الصهيونية تواجههم بالمدافع وسيحاولون الفرار ولقاء زملائهم من الفدائيين في مناطق أخرى. ما زالت كلماتهم عالقة في أذني: لا حياة لنا".
قبل ستة أشهر من التهجير، كان الفدائيون الفلسطينيون يتصدون للجماعات الصهيونية، وقد سقط منهم شهداء وجرحى كثر، وكانوا ينقلون إلى مدينتي اللد والرملة على مقربة من يافا. وقبل شهر من النكبة، انتقلت أسرتها إلى قرية سلمة في محافظة يافا، إذ إن قريتها كانت تبعد كيلومتراً عن الحي اليهودي. وقبل الفرار، كانت العائلة قد التزمت المنزل خلال المعارك. في أحد الأيام، خرج والد زوجها من المنزل لتفقد فتاة تعاني من مرض نفسي، فقتلهما قناص إسرائيلي.
العائلات التي نزحت من قريتها كانت تقول إنها لن تترك الأرض حتى لو كان الموت هو الثمن. إلا أن ذلك لم يكن سهلاً بسبب وجود أطفال ونساء. كما أن الصهاينة كانوا يجبرونهم على الخروج، فتوجهوا إلى غزة. حينها، شعرت عاشور بالحزن وقد تركت قريتها وتخلت عن مهنتها.
تتحدث عن التعايش بين اليهود والمسيحيين والمسلمين في فلسطين من دون أي تمييز بينهم. كان والدها يعمل مع يهودي يدعى غرغور يملك مزارع كبيرة في يافا. وكانت تساعد والدها في زراعة تلك الأراضي وحراستها. وكان غرغور يعاملها بلطف وكأنها ابنته. حتى أن العديد من صديقاتها كنّ يهوديات، بحسب ما تخبّر.
تضيف أن اليهود الفلسطينيين كانوا يرفضون مقارنتهم بالهاغانا والأرغون. في أحد الأيام، أخبرتها إحدى النساء بألا تتحدث إلى اليهودية التي تقيم على مقربة من منزلها لأن اليهود قتلوا نجلها. وجاءت المرأة اليهودية للقاء جيرانها، فقالت لها المرأة التي استشهد نجلها: "أنتم قتلتم ابني. فردت اليهودية: نحن لم نقتل ابنك بل جماعة الهاغانا. صحيح أننا من ديانة مختلفة، لكننا فلسطينيون مثلكم".