وقد أظهر الواقع أن حصيلة التحرك الدبلوماسي الكثيف الذي قاد هولاند إلى واشنطن ثم موسكو، والذي تخللته لقاءات مع رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون والإيطالي ماتيو رينتزي والمستشارة الألمانية أنغيلا ميركل، كشف علناً محدودية الحلم الفرنسي بإقامة جبهة دولية موحدة لتدمير "داعش".
وبَدَا أول المؤشرات خلال لقاء هولاند مع الرئيس الأميركي باراك أوباما في البيت الأبيض، الثلاثاء الماضي، فعلى الرغم من التضامن البلاغي والعاطفي الذي أبداه أوباما في إدانة اعتداءات باريس، إلا أنه شدّد لهولاند بوضوح على استحالة إقامة تحالف بين واشنطن وموسكو ضد تنظيم "داعش"، ما دامت الهوة سحيقة بين الرؤيتين الأميركية والروسية في الملف السوري.
وكان أوباما أكثر وضوحاً عندما أقرّ لضيفه الفرنسي بأن "مجرّد التنسيق العسكري مع موسكو مشروط بحدوث تحوّل استراتيجي في مواقف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين"، والذي ترى واشنطن أن تدخله العسكري في سورية هدفه الأساسي حماية نظام الرئيس السوري بشار الأسد، وإضعاف كل الفصائل التي تحاربه في الميدان.
اقرأ أيضاً: حرب التصريحات متواصلة بين أردوغان وبوتين وواشنطن تدعو للحوار
وحتى قبل أن تطأ أقدامه مطار موسكو، يوم الخميس، كان هولاند مدركاً أن الإدارة الأميركية أحدثت شرخاً كبيراً بحلمه الفرنسي في تكوين ائتلاف دولي موسع، فبدأ يعيد حساباته، مركّزاً في لقائه مع بوتين على "التنسيق" بين فرنسا وروسيا في الغارات الجوية ضد "داعش" في سورية، وتبادل المعلومات من أجل تفادي وقوع حوادث، وأيضاً انتزاع حدّ أدنى من المطلب الفرنسي المتمثل في إقناع بوتين بالعدول عن استهداف مجموعات المعارضة السورية التي تحارب التنظيم المتطرف.
بدورها كانت تصريحات بوتين هي الأخرى قابلة للتأويل، حين رمى الكرة في ملعب الدول الغربية، واعتبر أن الولايات المتحدة تحديداً "لا ترغب في إقامة تحالف موسع مع روسيا ضد الإرهاب". ولخّص بوتين نتائج لقائه بهولاند في المؤتمر الصحافي، حين قال "تعلم روسيا وفرنسا ما هو روح التحالف. حدث ذلك أكثر من مرة في تاريخنا. اتفقنا اليوم على تعزيز عملنا المشترك على مسار مكافحة الإرهاب وتبادل المعلومات حول مكافحة الإرهاب وتنظيم عمل بناء لخبرائنا العسكريين لتفادي وقوع حوادث". هكذا تغيرت عناوين المسعى الفرنسي من مصطلح "ائتلاف" استراتيجي إلى مصطلح "تنسيق" ذي الحمولة التقنية التكتيكية.
وما زاد من خيبة هولاند هو حادث إسقاط المقاتلة الروسية "سوخوي 24" من طرف سلاح الجو التركي، ليقوّض آماله في تكوين الائتلاف الدولي الموسع ضد "داعش"، والذي كان من المفترض نظرياً أن تكون تركيا لاعباً أساسياً فيه.
وحاول الرئيس الفرنسي، يوم الإثنين، خلال اليوم الأول من قمة المناخ الدولية في باريس، التخفيف من حدة الأزمة الروسية التركية المفتوحة، وتبليغ محاوريه من قادة العالم بمن فيهم بوتين والرئيس التركي رجب طيب أردوغان بأن العدو الأساسي هو تنظيم "داعش"، لكن الهوة بين موسكو وأنقرة صارت أكبر من أن تُردم بالكلام الدبلوماسي المنمّق، نظراً للتناقض الصارخ بين مصالح الروس والأتراك في الحرب السورية.
والواقع أن فرنسا التي عاشت، وما تزال، اعتداءات باريس وكأنها نسخة عن 11 سبتمبر/أيلول 2001 الأميركي، تريد على الأقل تحقيق ما نجحت فيه آنذاك إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش الابن، والذي تمكن في غضون أسابيع قليلة بعد الاعتداءات، من حشد دعم مجلس الأمن الدولي وغالبية دول العالم، مشكّلاً "ائتلافاً دولياً واسعاً". وأدى الائتلاف دوره عبر التدخل العسكري الواسع جوياً وبرياً في أفغانستان، معقل تنظيم "القاعدة"، المتُهم بأحداث 11 سبتمبر/أيلول، للإطاحة بنظام حركة "طالبان".
بالتالي، إن ما تريده فرنسا الآن كحدّ أدنى من رد الاعتبار بعد الاعتداءات الارهابية المهينة في قلب شوارع عاصمتها، هو تدمير مدينة الرقة، عاصمة تنظيم "داعش" في سورية، ورفع هذا السقف تدريجياً ليصل إلى حدّ تدمير عاصمة التنظيم في العراق، الموصل. تريد فرنسا تحقيق الردّ بأسرع وقت وبأي ثمن، لأنه، حتى الآن، يبدو "داعش" رابحاً في معركته ضدها، بعد ضربه هيبتها في الصميم.
وفي ظل فشل "الائتلاف الدولي الموسع" ضد "داعش" والاقتناع بأن الغارات الجوية من دون تدخّل بري، لن يُحقّق الأهداف الفرنسية في تدمير التنظيم، تبدو خيارات هولاند محدودة جداً. من جهة هناك التنسيق مع موسكو في الغارات الجوية وإقناعها باستهداف أكثر فعالية لمعقل "داعش" في الرقة، ومن جهة أخرى هناك احتمالات تشكيل قوة عربية أو إقليمية قادرة على حسم المعركة البرية ضد التنظيم في الرقة والموصل.
ولا شك أن هولاند استمع باهتمام كبير إلى تصريحات رئيس الوزراء التركي أحمد داود أوغلو، الأخيرة التي نقلتها قناة "الجزيرة"، وقال فيها إن "بلاده ستبدأ عملية جديدة مع السعودية ودولة أخرى لمكافحة الإرهاب في سورية وبدعم إقليمي".
إذاً، هناك ضوء خافت في نفق العجز الفرنسي عن تحقيق هدف تدمير عدوها الأول "داعش"، وبالتأكيد هو ما كان حاضراً بقوة في ذهن هولاند، حين اختلى بالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، خلال افتتاح قمة المناخ، للتحدث عن سورية. يعوّل هولاند كثيراً على دور مصري سعودي في تحقيق أهدافه، ولما لا بقيادة تركية، وخصوصاً أن هذين البلدين يُعتبران من أقوى حلفائه الاستراتيجيين في المنطقة، والأكثر تأهيلاً على المستوى العسكري.
اقرأ أيضاً: قصة رجلٍ مسلم.. أنقذ آلاف الأرواح في تفجير فرنسا!