يعتبر الموروث الشعبي بمثابة خيط يربط الحاضر بالماضي، ويشتد هذا الخيط متانة ويصبح نافذة تطلّ على تراث الأجداد، عندما يسعى الإنسان إلى المحافظة على الجميل والناصع منه، إن كان فناً أو حرفة وصنعة أو نهج حياة. واليوم يعيش القطريون تفاصيل المدنية بكل رفاهيتها، إذ يتصدر الفرد في قطر العالم في أعلى دخل وفق إحصاءات البنك الدولي، لكنهم لا يزالون متمسكين بموروثهم الشعبي؛ فبيوت القطريين، بكل حداثتها، لا تخلو من قطع "السدو" التي تحاك من صوف الأغنام أو وبر الجِمال وشعر الماعز.
كما أن المهرجانات، خاصة الثقافية، التي تقام في الدوحة، أو تنظمها الجهات القطرية في المدن والعواصم حول العالم، تتزين بخيمة تضم بين جنباتها أشكالاً متعددة من الموروث الشعبي وفي مقدمتها السدو، هذه الحرفة التقليدية التي ازدهرت في البادية منذ قديم الزمن.
داخل الخيمة التراثية ضمن فعاليات مهرجان "حلال قطر" الذي احتضنته المؤسسة العامة للحي الثقافي"كتارا"، واستمر لغاية 11 فبراير/ شباط الجاري، تجلس أربع سيدات بالزي القطري، واحدة أمامها كمية من الصوف تعمل على نفشه، والثانية تغزل الخيوط، فيما تقوم الثالثة بحركات دائرية بيديها، أما الرابعة فأمامها نول يدوي، وبحركات رشيقة من يديها تتحول الخيوط إلى قطعة من البساط أو ما يشبهه.
وحول السدو ومراحله، تقول أم عبدالهادي لـ"العربي الجديد": "السدو باختصار حياكة الصوف، وهي حرفة تعتمد على جهد المرأة في المقام الأول، وقد استعملته الجدات في قطر ومنطقة الخليج، وكانت حرفة رائجة قبل اكتشاف النفط، وما تزال الأدوات المستعملة في حياكته مستخدمة حتى اليوم كالمغزل والنول والمنشزة".
يمر إنتاج السدو بخمس مراحل؛ الأولى هي "الجزيز" مع "النفيش"، والثانية تحويل الصوف إلى خيوط، والثالثة "البريم"؛ أي برم الصوف حتى يتحمل الشدة والقوة، ثم الصبغ إلى عدة ألوان حسب الطلب، والمرحلة الأخيرة هي تحويل الصوف إلى سدو، وفق الحاجة المطلوبة. تلفت أم عبد الهادي إلى أن السدو ينتج بیت الشعر و"القاطع" الذي یقسم بیت الشعر و"الرواق" وھو بمثابة مصد للریح و"العدول" وھي أكیاس لحفظ الطعام و"السفایف" وتستخدم لتزیین الھجن والخیول و"المزاود" و"الخرج" التي تحفظ بھا الملابس.
تقول أم عبد الهادي: "تعلمت الحرفة على يد والدتي، وبعد وفاتها نبشت بين أغراضها عن رسومات وغيرها وكل ما يتعلق بالحرفة، وعلمته لبناتي".
الباحث في التراث الشعبي القطري، خليفة السيد المالكي، يقول في حديثه لـ"العربي الجديد" إن المرأة القطرية تعبّر، في عملها هذا، عن تقاليد فنية عريقة ضاربة بجذورها في عمق التاريخ، وقد اعتمد القطريون على "السدو" في مسكنهم وأسلوب حياتهم.
ورغم التطور التكنولوجي والتقني، إلا أن المالكي لا يخشى اندثار"السدو"، مطالباً بضرورة تعلم الفتيات هذه الحرفة، وتعريفهن بتراثهن وموروثهن الشعبي، مقترحاً إدخال السدو بأشياء تستخدمها الأجيال اليوم، بحيث لم يعد استخدامه مرتبطاً بأدوات ووسائل تراثية، كبيت الشعر والبسط والرواق، وفي المفروشات والوسائد والأغطية، بل يتعدى ذلك، فكم هو جميل عندما يكون غطاء الهاتف الجوال من السدو مثلا، أو تتزين به الحقائب المدرسية وغيرها، ما يعيد انتشار هذا التراث.
قديماً، كانت السيدات يتفنن في إنتاج السدو بنقوش وزخارف متنوعة، تحمل أشكالاً مستوحاة من البيئة الصحراوية، أو رموزاً ومعاني مختلفة يدركها أبناء البادية، ويعرفون ما تحمله من قيم، فبعضها يعبر عن وشم يميز القبيلة، وبعضها عن مواسم الحصاد أو الرعي. يتميز السدو بألوانه الزاهية المتنوعة وزخارفه الجميلة التي لها أيضاً دلالات اجتماعية مختلفة، ومستوحاة من طبيعة أبناء البادية.
ولحماية لهذا الموروث، يقترح الباحث الشعبي إقامة ورش ودورات تخرّج حرفيات وحرفيين في السدو وغيرها من المهن التراثية، ويمكن الاستعانة بخبرات من سلطنة عمان لإغناء هذه الدورات المهمة، مؤكداً أهمية تأسيس مراكز لتعليم الحرف الشعبية، وتشجيع الأجيال على الانتساب لها.
في محل بسوق واقف التراثي، ثمة كميات من البسط والوسائد والفرش، يغلب عليها السدو ذي اللون العنابي والمزخرف ببعض الرسومات والخطوط الملونة. يقول البائع إن الأسعار تتفاوت حسب نوعية الصوف، "الركية" الوسادة الكبيرة المصنوعة من أصواف الأغنام ثمنها نحو 200 ريال، والبساط الذي يشبه سجادة صغيرة الحجم، من السدو في حدود 150 ريالاً.
أما بيوت الشعر فأوضح البائع أنها تكون حسب الطلب، وتسلم في الوقت المحدد، وتتراوح أسعارها بين 3 آلاف و140 ألف ريال، للبيت المتوسط. وعن الإقبال، أخبرنا البائع أن حركة البيع تنشط في المناسبات والأعياد الدينية والوطنية ومع حلول شهر رمضان، وموسم التخييم الشتوي.