ما حدث هذا الأسبوع في شوارع الولايات المتحدة الأميركية، يُعتبر نقطة تحوّل كبرى في العلاقة الشائكة بين رجال الشرطة البيض والضحايا السود أو الأميركيين الأفارقة، ليس فقط بسبب فداحة ما جرى في ولايات أميركية متباعدة، ولكن لأن الثأر من رجال الشرطة يحدث للمرة الأولى بصورة غير مسبوقة، وهو ما يضع أجهزة الشرطة أمام استحقاق جديد. وجرى استهداف رجال الشرطة بالقنص وبأسلحة رشاشة سريعة الطلقات، فكادت دالاس في ولاية تكساس تتحوّل إلى أورلاندو أخرى، رداً على جريمتي قتل منفصلتين ارتكبتهما الشرطة في ولايتي لويزيانا ومينيسوتا.
تسلسل الأحداث
بدأت الأحداث مطلع الأسبوع في لويزيانا أمام محل تجاري يملكه مهاجر عربي تمكّن من تسجيل واقعة إطلاق النار والقتل الوحشي، لأحد زبائنه من السود. ويبدو أن بث التسجيل عبر القنوات الإخبارية شجع مواطنة أميركية أخرى في ولاية مينيسوتا على أن تسجل واقعة أخرى كان ضحيتها رفيقاً لها.
وكشف مصور جريمة لويزيانا، المهاجر اليمني عبدالله المفلحي الذي وقعت الجريمة أمام متجره، في اتصال أجرته معه "العربي الجديد"، أن عدداً كبيراً من رجال الشرطة جاؤوا بعد الجريمة إلى محله ونزعوا كاميرات التصوير التي ترصد كل شاردة وواردة تقع في موقف السيارات أمام المتجر. وأضاف المفلحي أن تصرفهم هذا أوحى له بأنهم يرغبون في إخفاء معالم القضية وطلبوا منه ألا يتحدث عما رآه لأحد، لكنهم لم يدركوا أنه قام بتصوير الوقائع لحظة بلحظة بكاميرا هاتفه.
وفي معرض سرده لتلك الوقائع، قال المفلحي إن الضحية كان في متجره عندما وصل رجال الشرطة زاعمين أن هناك من اتصل يشكو الضحية بأنه يحمل سلاحاً نارياً. وأثناء محاولة الشرطة تفتيش الضحية، ألتون ستيرلينغ، ويبلغ من العمر 37 عاماً، حصل عراك بينهم لكن حسب المفلحي لم يشهر الضحية أي سلاح ناري. ولا يعرف المفلحي إن كان ستيرلينغ يحمل مسدساً في حينها أم لا، لكنه أقر بأن الضحية يملك مسدساً ويحمله معه بصورة شبه دائمة. وأضاف: "أثناء حدوث المشادة، شعرت أن الأمر يتصاعد وقد ينتهي إلى اعتداء بالضرب على الضحية، فجهزت هاتفي وبدأت التصوير، في وقت كان فيه رجال الشرطة قد أوقعوا الضحية على الأرض، لكن هدفي كان تصوير واقعة الضرب ولم أكن أتصور أنهم سيطلقون النار عليه". وعن عدد من اشتبك مع الضحية أجاب المفلحي: "اثنان هما اللذان ظهرا في الشريط".
وتُظهر المشاهد المصورة، الضحية وهو ملقى على الأرض، قبل أن يُشهر أحد عناصر الشرطة، مسدسه من خاصرته ويطلق حوالى ثلاث طلقات على الرجل الأسمر، الذي كان حينها شبه عاجز عن المقاومة. ونفى المفلحي في حديثه لـ"العربي الجديد"، أن يكون قد بث التسجيل عبر موقع "فيسبوك" أو أي موقع آخر من مواقع التواصل الاجتماعي، لكنه أشار إلى أنه عرض التسجيل المصور على أحد المحامين، فاصطحبه الأخير إلى محطة تلفزيون محلية، تولت بث التسجيل، ومنها تناقله مغردون آخرون على نطاق واسع عبر موقعي "تويتر" و"فيسبوك".
ورداً على سؤال، عما إذا كان قد تقاضى ثمناً للتسجيل من المحطة التلفزيونية، التي سلّمه لها قال المفلحي: "لم يكن يهمني وقتها سوى أن أُظهر لأميركا كلها حقيقة ما حصل من دون أن أتعرض لأي مخاطر قانونية جراء ما قمت به، أما المقابل المادي فلم يخطر على بالي أن أطالب به كما لم يُعرض عليّ أي ثمن".
وفي ولاية مينيسوتا، تمكّنت المواطنة الأميركية لافيش رينولد، من بث مشاهد مباشرة للدقائق التي تلت إطلاق النار، على رفيقها الضحية فيلاندو كاستايل، البالغ من العمر 32 عاماً. وحسب المشاهد التي أعادت بثها القنوات الأميركية على نطاق واسع، فقد استوقف رجال الشرطة سيارة يقودها رجل أسود وبجانبه امرأة (رينولد) وظهر سائق السيارة في المشاهد المصورة ملطخاً بالدماء أمام مقود السيارة المتوقفة. وعلى الأرجح أن رفيقة السائق الضحية كانت في تلك اللحظة قد حوّلت صفحة لها على "فيسبوك" إلى بث مباشر عبر منشور عنونته بكلمة واحدة هي "شرطة"، واستمر البث المباشر لأكثر من ست دقائق بقليل.
وفي التسجيل، أوضحت المرأة بصوتها أن الشرطة أطلقت أربع رصاصات على رفيقها الذي قالت إنه أخبر الشرطة بأن لديه سلاحاً نارياً مرخصاً. وعندما أراد التقاط محفظته لتقديم أوراقه الثبوتية أطلقت الشرطة النار عليه. وكان الضحية وقت تصوير المشهد، لا يزال على قيد الحياة، إذ شوهد يحاول التحرك.
وأثارت الجريمتان الرأي العام الأميركي لأن مرتكبيهما عناصر في الشرطة الأميركية، كما أثارتا سخطاً واسعاً على وجه الخصوص في أوساط الأميركيين الأفارقة، إذ ينتمي القتيلان إلى هذه الأقلية التي تكررت اعتداءات الشرطة على أفرادها على نطاق الولايات المتحدة.
وكان من اللافت أن التظاهرات الاحتجاجية على هاتين الجريمتين، لم تقتصر على المواطنين من أصول أفرو أميركية، بل شارك فيها المئات من الأغلبية البيضاء تعبيراً عن انزعاجهم من تكرار مثل هذه الحوادث التي قال بعضهم إنها تنخر في وحدة المجتمع الأميركي وتزعزع أمنه. لكن أخطر تلك التظاهرات هي التي انتهت بقنص رجال الشرطة في دالاس أمس الجمعة، ما أدى إلى مقتل 5 منهم وإصابة 6 آخرين، فيما نحر أحد القناصة نفسه حسب قول الشرطة وألقي القبض على قناصين آخرين.
رد فعل جماعي
كانت ردود الفعل في السابق على عنف الشرطة الأميركية ضد المواطنين السود، تقتصر عادة على تظاهرات الاحتجاج التلقائية التي قد يشوبها عنف أحياناً، ولكنه عنف بلا سابق إصرار وترصد، أما ما حدث في دالاس فقد دق ناقوس الخطر. ويعتقد بعض المحللين أن رد فعل كهذا لم يكن عفوياً ولا فردياً، بل عملاً جماعياً نسبه البعض إلى متطرفين ينتمون إلى حركة سلمية ترفع شعار: "حياة السود لها أهمية...". ومن بين مؤيدي الشعار الرئيس الأميركي باراك أوباما نفسه وكذلك المرشحة الرئاسية هيلاري كلينتون، ومعظم السياسيين الذين يهمهم صوت الناخب الأسود.
وبسبب كثرة حوادث إطلاق النار في الولايات المتحدة التي يكون طرفاها شرطي أبيض وضحية أسمر، أصبح الأميركيون يسخرون من هذا الوضع بالقول إن من أولى المهام التي يجيدها عناصر الشرطة في جميع أنحاء البلاد إطلاق النار على أي رجل أسود يسترعي انتباههم، باستثناء الشرطة السرية الأميركية التي جرى تدريب عناصرها على عدم إطلاق النار مهما كانت الأسباب. وتفسير ذلك من وجهة نظر الساخرين، أن الرجل الأسود في حالة الشرطة السرية الأميركية هو رئيس البلاد، (في إشارة إلى الرئيس الحالي باراك أوباما بصفته من ذوي البشرة السمراء)، وإطلاق النار عليه قد يقود إلى كارثة.
فحتى حديث أوباما الذي أدلى به في وارسو تعليقاً على مقتل شابين أسودين بأيدي رجال شرطة بيض في لويزيانا ومينيسوتا، أثبت أن الرجل الأسود لا يزال يعاني من الاضطهاد العنصري. وقال أوباما تعليقاً على الواقعتين بعيد وصوله إلى وارسو: "عندما تقع مثل هذه الحوادث يشعر قطاع كبير من مواطنينا كما لو أنهم لا يلقون المعاملة نفسها بسبب لون بشرتهم وذلك ما يجب أن يقلقنا جميعاً". وشكا أوباما من أن السود عرضة بشكل أكبر للقتل على يد الشرطة ويتلقون أحكاماً أشد من نظرائهم البيض. وأعرب عن غضبه الشديد من استمرار وقوع مواطنيه من ذوي البشرة السمراء قتلى بأيدي رجال الشرطة.
لكن أهم ما جاء في تعليق أوباما هو التساؤل الذي قصد به على ما يبدو المرشح الجمهوري دونالد ترامب، قائلاً له من دون أن يذكر اسمه: "ما هو شعورك لو أن القتيل من أفراد أسرتك؟". وجرى في اليوم التالي إطلاع أوباما على تفاصيل استهداف ضباط الشرطة في دالاس، وسارع أيضاً إلى تعزية أسر الضحايا.
يشار إلى أن من أبرز الحوادث السابقة مقتل الشاب الأسود مايكل براون (18 عاماً) العام الماضي في مدينة فيرغيوسون إحدى ضواحي سانت لويس بولاية ميزوري على يد أحد رجال الشرطة من ذوي البشرة البيضاء، فخرج السكان السود في المدينة مشتعلين غضباً مما حدث، وتداعت للحدث مدن أميركية أخرى لكن استهداف رجال الشرطة بمثل ما حدث في دالاس لم يتم سابقاً.