كلما توترت العلاقات بين واشنطن وموسكو، تظهر العوارض على هيئة اكتشاف شبكة جاسوسية، أو فرار عنصر استخباراتي لأحدهما. وكلما خفّت حدة التوتر، تخرج إلى العلن صفقة تبادل للجواسيس. وقد تهدأ حرب التجسس بين فينة وأخرى، ولكنها لم تتوقف يوماً.
وفي مؤشر على أنّ درجة حرارة التوتر في الوقت الراهن قد ارتفعت بين العاصمتين لأسباب معروفة وأخرى مخفية، كشفت السلطات الأميركية أول من أمس الستار فجأة عن أسماء ثلاثة جواسيس مفترضين قالت إنهم يجمعون معلومات مصرفية عن الولايات المتحدة لصالح روسيا. وبغض النظر عن مدى صحة التهم الموجهة لهؤلاء، فإن ذلك لا ينفي أن الولايات المتحدة تأتي في مقدّمة الدول المستهدفة بالتجسس، ليس من قبل روسيا وحدها، بل من قبل "140 جهازا أجنبيا تمثل الولايات المتحدة لها الهدف رقم 1"، بحسب ما كشف مسؤول استخباراتي رفيع لـ"العربي الجديد".
وتزامن الكشف الأميركي عن الجواسيس الروس مع صدور حكم بالإدانة على مسؤول سابق في وكالة الاستخبارات المركزية "سي آي إيه"، لم يتهم بالتجسس لأي طرف خارجي، بل لصالح صحيفة "نيويورك تايمز"، وبالتالي، جاءت إدانته لتسلط الضوء على ظاهرة أميركية جديدة هي التجسس لصالح الصحافة، أو بمعنى آخر لصالح العالم أجمع. وأثار هذا الأمر جدلاً حول ضوابط العلاقة بين المخبر السري والمخبر الصحفي، وأوجه الشبه والتضاد بين وظيفة الكاتم وحرفة الناشر.
كما سلّطت إدانة مسؤول "سي آي إيه" الضوء على ظاهرة مصاحبة للعمل الاستخباري في الولايات المتحدة وهي الخوف الشديد الذي يعتري مسؤولي وكالة الاستخبارات المركزية والوكالات المدنية الأخرى من ضباط مكتب التحقيقات الفدرالي "إف بي آي". ومن أقوى الأدلة على هذا الخوف، تقرير نشرته الوكالة الأسبوع الماضي، يتضمن نتائج تحقيق داخلي يبرر لها دواعي تجسسها على بعض أعضاء الكونجرس، وهو ما يتعارض مع المهمة الخارجية الملقاة على عاتق الوكالة، والتي لا تشمل التجسس على الأميركيين. فيما تعدّ مهام مكتب "إف بي آي"، داخلية بالدرجة الأولى، ويتمتع منتسبوه بصلاحية الضبط القضائي، إذ إنهم مسلحون بأنه يمكنهم القبض على أي مسؤول في الأجهزة الأخرى في حال الاشتباه به ثم إحالته للقضاء.
ويعتقد المسؤولون عن مكافحة التجسس في الولايات المتحدة أن التهديد الأمني الذي يشكله التجسس المقبل من الخارج لا يزال قائماً رغم انتهاء الحرب الباردة في أوائل التسعينيات من القرن الماضي.
جواسيس روس في نيويورك
يوم الاثنين الماضي، ألقى مكتب التحقيقات الفدرالي الأميركي القبض على موظف في أحد البنوك الروسية يدعى يفغيني بورياكوف (39 عاماً)، بتهمة جمع معلومات عن الاقتصاد الأميركي ومحاولة تجنيد مصادر معلومات إضافية. أحيل بورياكوف للمحاكمة، وتقرر أن يمثل أمام محكمة فدرالية في مانهاتن. لم يكن بورياكوف وحده، بل كان له زميلان آخران هما إيجور سبوريشيف (40 عاماً) وفيكتور بودوبوني (27 عاماً)، غير أنّ هذين الأخيرين احتميا بحصانتيهما الدبلوماسيتين، إذ إنهما يعملان تحت غطاء البعثة الروسية لدى المنظمة الدولية، وعادا سالمين إلى روسيا، وإن بدأت محاكمتهما غيابياً.
ومن المفارقات، أن لائحة الاتهام ضد الجاسوسين تتضمن عبارة التجسس غير القانوني الأمر الذي يؤكد صحة ما يقوله القانونيون الأميركيون من أن العمل لصالح أي حكومة أجنبية جائز في الولايات المتحدة بشرط الإعلان عن ذلك عن طريق التسجيل الرسمي كوكيل أو عميل لحكومة أجنبية، كي يكون العمل علنياً وليس سرياً. وفي الوقت الذي تسجل أسماء العملاء الأجانب، إن كانوا دبلوماسيين، في سجلات الخارجية الأميركية تلقائياً، فإن المواطنين الأميركيين المزدوجي الجنسية يتحتم عليهم التسجل في وزارة العدل لإشهار تعاملهم مع أي جهة أجنبية محددة، بما في ذلك الحكومات الأجنبية، مع تحديد المهام التي يقومون بها، ومن ضمنها العضوية في مجموعات الضغط لصالح هذه الجهة أو تلك.
ولم تكن عملية القبض على جاسوس روسي في نيويورك والكشف عن آخرين هي الأولى من نوعها، إذ إن حرب التجسس المتبادلة بين الطرفين قد تهدأ أحياناً ولكنها لا تتوقف، ويعود تصاعدها حالياً إلى عدّة عوامل من بينها الخلاف الدائر بينهما بسبب أوكرانيا وسورية وأسعار النفط وغيرها.
صفقات الإفراج
وتجري العادة أنّه عندما تهدأ حدّة العداء بين الولايات المتحدة وروسيا، فإنهما تتبادلان الإفراج عن جواسيسهما، ولكن أكبر صفقة لتبادل الجواسيس منذ الحرب الباردة كانت تلك التي تمت في صيف 2010، حين تبادل الطرفان عشرة عملاء روس، مقابل أربعة عملاء لواشنطن، وتمت المبادلة في النمسا، بعد وقت قصير من إلقاء القبض على العملاء الروس العشرة في نيويورك، واعترفوا حينها أمام محكمة في مانهاتن بتورطهم بمؤامرة للتجسس في الولايات المتحدة. وحرصت السلطات الأميركية على الحصول من المتهمين الروس على تعهدات بعدم العودة للولايات المتحدة وقعوها باسمائهم الأصلية، وليس الأسماء المتخذة ستاراً للتجسس. وقالت السلطات الأميركية إن الموقعين هم فلاديمير جوريف وليديا جوريف وميخائيل كوتزيك وناتاليا بيريفرزيفا وأندري بيزوروكوف وإلينا فافيلوفا وميخائيل فاسنكوف وفيكي بيلياز وآنا شابمان وميخائيل سيمنكو.
ورغم اعتراف المتهمين بالعمل بشكل سرّي لصالح روسيا بدون التسجيل كعملاء أجانب، غير أن مصادر روسية فسرت إلقاء القبض عليهم بأنه يأتي بغرض الضغط على موسكو للإفراج عن أربعة متهمين بالتجسس لصالح واشنطن، أحدهم، هو إيجور سوتياجين، العالم النووي المحكوم عليه بالسجن في روسيا بتهمة افشاء أسرار الغواصات النووية الروسية. وشملت القائمة أيضاً كلاً من عميل الاستخبارات الخارجية الروسية ألكسندر زابورسكي وجينادي فاسلينكو وعقيد الاستخبارات العسكرية الروسية السابق سيرجي سكربال.
أبرز الجواسيس
لعلّ ضابط العمليات الخاصة الرفيع المستوى في مكتب المباحث الجنائية الفيدرالي، روبرت هانسن، الذي تجسس لحساب الاتحاد السوفييتي ثم روسيا طوال عقدين من الزمن تقريباً، أبرز الجواسيس. وزود هانسن الروس بمعلومات "كان يمكنهم استخدامها لإلحاق هزيمة حاسمة بالولايات المتحدة لو اندلعت الحرب آنذاك"، بحسب مسؤولي الاستخبارات الأميركيين.
إضافة إلى هانسن، يبرز اسم ألدرتش إيمز، وهو ضابط مسؤول عن عمليات التجسس (في الخارج) في وكالة الاستخبارات المركزية، ألقى مكتب المباحث الجنائية الفيدرالي القبض عليه في فبراير/شباط 1994، بتهمة التجسس لبيعه أسرارا أميركية مهمة لروسيا منذ العام 1985. وقام بالتجسس في مراكز عمله في الخارج في روما والولايات المتحدة.
وتكمن خطورة ألدرتش إيمز أنه كشف عن المئات من عمليات التجسس البشرية الأميركية لدى الاتحاد السوفييتي قبل انهياره. ويعتقد الأميركيون أن جميع أعضاء شبكات التجسس الأميركية في الاتحاد السوفييتي إما سجنوا أو قُتلوا.
ومن الجواسيس البارزين أيضاً المهندس الأميركي الصيني تشي ماك، الذي حوكم في كاليفورنيا عام 2007 بتهمة الكشف عن معلومات بحرية أميركية سرية للغاية للحكومة الصينية. وعمل ماك كمتعاقد مع سلاح البحرية الأميركي في برنامج الإبحار الكهربائي، واعترف بأنه استمر في تزويد الصين بالمعلومات منذ العام 1983 حتى تاريخ القبض عليه. وقيل حينها إنه كشف للصينيين عن تكنولوجيا توزيع الطاقة لنظام الرادار في السفن والغواصات الحربية، وهو ما قلّص قدرة الردع لدى سلاح البحرية في مضيق تايوان. وتكمن أهمية هذا التجسس في ناحيته المالية، إذ يمكن للخصوم أن يستفيدوا من ميزانية البحث والتطوير الأميركية في دعم قدراتهم القتالية مجاناً.
بين المخبرين السرّي والصحافي
ولم يُعرف بعد كيف تم الاشتباه بالجواسيس الروس المزعومين في نيويورك، ولكن إعلان الكشف عن وجودهم تزامن مع صدور حكم بالإدانة على المسؤول السابق في وكالة الاستخبارات المركزية، جيفري ستيرلينغ، الذي لم يتهم بالتجسس لأي طرف خارجي بل لصالح صحيفة "نيويورك تايمز". وسلطت إدانة ستيرلينغ الضوء على ظاهرة أميركية جديدة هي التجسس لصالح الصحافة، كما أثارت تلقائياً الجدل حول ضوابط العلاقة بين المخبر السري والمخبر الصحافي، وأوجه الشبه والتضاد بين وظيفة تستند على كتم الأسرار وحرفة قائمة على نشر الأسرار.
وتزامن ذلك مع حالة مستمرة من القلق الأميركي على المنظومة الاقتصادية والمعلومات السرية المودعة في خزائن الكترونية وشبكات معلوماتية، تكبد الموازنة الأميركية مليارات الدولارات لحمايتها من التسلل أو الاختراق بأيادٍ خارجية. وهذا الخوف الأميركي له ما يبرره، إذ إن الولايات المتحدة تقف على رأس أهم الدول المستهدفة بالتجسس، ليس من قبل روسيا وحدها بل من قبل "140 جهاز استخبارات أجنبياً يحاول اختراق الولايات المتحدة أو مصالح أميركية في الخارج. وتمثل أميركا لهذه الأجهزة الأجنبية الهدف رقم 1"، بحسب مسؤول رفيع عن مكافحة التجسس، يعمل في مكتب مدير الاستخبارات القومية، فضل عدم نشر اسمه لـ"العربي الجديد". ويشرف مكتب الاستخبارات القومية على 16 جهاز استخبارات أميركي، ويتبع للبيت الأبيض مباشرة، وعلى وجه التحديد لرئيس الولايات المتحدة الأميركية.
وفي الوقت الذي تنتقد فيه الصحافة الأميركية أجهزة الاستخبارات الأميركية، لأنّها تُخفي عملاءها في كثير من الأحيان في هوية الصحافيين بغرض الحصول على المعلومات التي تريدها، وهو ما يعرّض عمل الإعلامي للخطر، تشكو الأجهزة الاستخباراتية في المقابل من الصحافة لأنها تتبنى الهاربين من عالم الاستخبارات، ولعلّ أبرزهم عميل وكالة الأمن القومي الأميركية إدوارد سنودان، الذي احتضنته روسيا والصحافة على حد سواء. وسرّب سنودان معلومات سرية تتعلق ببرنامج تجسس إلكتروني تديره وكالة الأمن القومي الأميركية على المكالمات الهاتفية والمراسلات الإلكترونية منها أيضاً على الدول الأوروبية.
الاقتصاد هو الهدف
وتشتبه أجهزة الاستخبارات الأميركية في أنّ الاستخبارات الروسية تبغي من وراء استهدافها للمؤسسات الاقتصادية الأميركية، عبر نشر الجواسيس والقرصنة الالكترونية، التوفيق بين المعلومات المستقاة من مصادر بشرية مع تلك المستقاة من الاختراق الالكتروني. وبمعنى آخر، فإنّ تلك المصادر البشرية هي التي تساعد على نجاح الاختراق الإلكتروني. ففي أواخر أغسطس/ آب الماضي، حقق مكتب "أف بي آي" في اختراق روسي لبنوك أميركية. وأعلنت مصادر أميركية أن قراصنة كمبيوتر روساً (هاكرز) تمكنوا من اختراق النظام الالكتروني لشركة "جاي بي مورجان" المالكة لبنك "تشايز" الأميركي الشهير في منتصف الشهر الجاري، إلى جانب اختراقات أخرى لبنوك ترددت في الاعلان عن تعرضها للاختراق. وقالت محطات تلفزة أميركية إن القراصنة الروس ربما تكون دوافعهم انتقامية نتيجة للحصار الاقتصادي الأميركي المفروض على بلادهم. كما تحدثت الصحافة الأميركية عن تمكن القراصنة الروس من الوصول إلى خزائن كلمات السر لآلاف العملاء والمستثمرين في عدة بنوك وشركات أميركية.
وفيما يركز الأميركيون حالياً على عدو خارجي يتمثل في تنظيمات مثل "القاعدة" و"داعش"، يحدق خطر كبير بأمنهم يقوم على تقنية المعلومات، ويأتي من بلاد بعيدة، من روسيا والصين وكوريا الشمالية، أو حتى الهند.
وفي مؤشر على أنّ درجة حرارة التوتر في الوقت الراهن قد ارتفعت بين العاصمتين لأسباب معروفة وأخرى مخفية، كشفت السلطات الأميركية أول من أمس الستار فجأة عن أسماء ثلاثة جواسيس مفترضين قالت إنهم يجمعون معلومات مصرفية عن الولايات المتحدة لصالح روسيا. وبغض النظر عن مدى صحة التهم الموجهة لهؤلاء، فإن ذلك لا ينفي أن الولايات المتحدة تأتي في مقدّمة الدول المستهدفة بالتجسس، ليس من قبل روسيا وحدها، بل من قبل "140 جهازا أجنبيا تمثل الولايات المتحدة لها الهدف رقم 1"، بحسب ما كشف مسؤول استخباراتي رفيع لـ"العربي الجديد".
وتزامن الكشف الأميركي عن الجواسيس الروس مع صدور حكم بالإدانة على مسؤول سابق في وكالة الاستخبارات المركزية "سي آي إيه"، لم يتهم بالتجسس لأي طرف خارجي، بل لصالح صحيفة "نيويورك تايمز"، وبالتالي، جاءت إدانته لتسلط الضوء على ظاهرة أميركية جديدة هي التجسس لصالح الصحافة، أو بمعنى آخر لصالح العالم أجمع. وأثار هذا الأمر جدلاً حول ضوابط العلاقة بين المخبر السري والمخبر الصحفي، وأوجه الشبه والتضاد بين وظيفة الكاتم وحرفة الناشر.
كما سلّطت إدانة مسؤول "سي آي إيه" الضوء على ظاهرة مصاحبة للعمل الاستخباري في الولايات المتحدة وهي الخوف الشديد الذي يعتري مسؤولي وكالة الاستخبارات المركزية والوكالات المدنية الأخرى من ضباط مكتب التحقيقات الفدرالي "إف بي آي". ومن أقوى الأدلة على هذا الخوف، تقرير نشرته الوكالة الأسبوع الماضي، يتضمن نتائج تحقيق داخلي يبرر لها دواعي تجسسها على بعض أعضاء الكونجرس، وهو ما يتعارض مع المهمة الخارجية الملقاة على عاتق الوكالة، والتي لا تشمل التجسس على الأميركيين. فيما تعدّ مهام مكتب "إف بي آي"، داخلية بالدرجة الأولى، ويتمتع منتسبوه بصلاحية الضبط القضائي، إذ إنهم مسلحون بأنه يمكنهم القبض على أي مسؤول في الأجهزة الأخرى في حال الاشتباه به ثم إحالته للقضاء.
ويعتقد المسؤولون عن مكافحة التجسس في الولايات المتحدة أن التهديد الأمني الذي يشكله التجسس المقبل من الخارج لا يزال قائماً رغم انتهاء الحرب الباردة في أوائل التسعينيات من القرن الماضي.
جواسيس روس في نيويورك
يوم الاثنين الماضي، ألقى مكتب التحقيقات الفدرالي الأميركي القبض على موظف في أحد البنوك الروسية يدعى يفغيني بورياكوف (39 عاماً)، بتهمة جمع معلومات عن الاقتصاد الأميركي ومحاولة تجنيد مصادر معلومات إضافية. أحيل بورياكوف للمحاكمة، وتقرر أن يمثل أمام محكمة فدرالية في مانهاتن. لم يكن بورياكوف وحده، بل كان له زميلان آخران هما إيجور سبوريشيف (40 عاماً) وفيكتور بودوبوني (27 عاماً)، غير أنّ هذين الأخيرين احتميا بحصانتيهما الدبلوماسيتين، إذ إنهما يعملان تحت غطاء البعثة الروسية لدى المنظمة الدولية، وعادا سالمين إلى روسيا، وإن بدأت محاكمتهما غيابياً.
ومن المفارقات، أن لائحة الاتهام ضد الجاسوسين تتضمن عبارة التجسس غير القانوني الأمر الذي يؤكد صحة ما يقوله القانونيون الأميركيون من أن العمل لصالح أي حكومة أجنبية جائز في الولايات المتحدة بشرط الإعلان عن ذلك عن طريق التسجيل الرسمي كوكيل أو عميل لحكومة أجنبية، كي يكون العمل علنياً وليس سرياً. وفي الوقت الذي تسجل أسماء العملاء الأجانب، إن كانوا دبلوماسيين، في سجلات الخارجية الأميركية تلقائياً، فإن المواطنين الأميركيين المزدوجي الجنسية يتحتم عليهم التسجل في وزارة العدل لإشهار تعاملهم مع أي جهة أجنبية محددة، بما في ذلك الحكومات الأجنبية، مع تحديد المهام التي يقومون بها، ومن ضمنها العضوية في مجموعات الضغط لصالح هذه الجهة أو تلك.
ولم تكن عملية القبض على جاسوس روسي في نيويورك والكشف عن آخرين هي الأولى من نوعها، إذ إن حرب التجسس المتبادلة بين الطرفين قد تهدأ أحياناً ولكنها لا تتوقف، ويعود تصاعدها حالياً إلى عدّة عوامل من بينها الخلاف الدائر بينهما بسبب أوكرانيا وسورية وأسعار النفط وغيرها.
صفقات الإفراج
وتجري العادة أنّه عندما تهدأ حدّة العداء بين الولايات المتحدة وروسيا، فإنهما تتبادلان الإفراج عن جواسيسهما، ولكن أكبر صفقة لتبادل الجواسيس منذ الحرب الباردة كانت تلك التي تمت في صيف 2010، حين تبادل الطرفان عشرة عملاء روس، مقابل أربعة عملاء لواشنطن، وتمت المبادلة في النمسا، بعد وقت قصير من إلقاء القبض على العملاء الروس العشرة في نيويورك، واعترفوا حينها أمام محكمة في مانهاتن بتورطهم بمؤامرة للتجسس في الولايات المتحدة. وحرصت السلطات الأميركية على الحصول من المتهمين الروس على تعهدات بعدم العودة للولايات المتحدة وقعوها باسمائهم الأصلية، وليس الأسماء المتخذة ستاراً للتجسس. وقالت السلطات الأميركية إن الموقعين هم فلاديمير جوريف وليديا جوريف وميخائيل كوتزيك وناتاليا بيريفرزيفا وأندري بيزوروكوف وإلينا فافيلوفا وميخائيل فاسنكوف وفيكي بيلياز وآنا شابمان وميخائيل سيمنكو.
ورغم اعتراف المتهمين بالعمل بشكل سرّي لصالح روسيا بدون التسجيل كعملاء أجانب، غير أن مصادر روسية فسرت إلقاء القبض عليهم بأنه يأتي بغرض الضغط على موسكو للإفراج عن أربعة متهمين بالتجسس لصالح واشنطن، أحدهم، هو إيجور سوتياجين، العالم النووي المحكوم عليه بالسجن في روسيا بتهمة افشاء أسرار الغواصات النووية الروسية. وشملت القائمة أيضاً كلاً من عميل الاستخبارات الخارجية الروسية ألكسندر زابورسكي وجينادي فاسلينكو وعقيد الاستخبارات العسكرية الروسية السابق سيرجي سكربال.
أبرز الجواسيس
لعلّ ضابط العمليات الخاصة الرفيع المستوى في مكتب المباحث الجنائية الفيدرالي، روبرت هانسن، الذي تجسس لحساب الاتحاد السوفييتي ثم روسيا طوال عقدين من الزمن تقريباً، أبرز الجواسيس. وزود هانسن الروس بمعلومات "كان يمكنهم استخدامها لإلحاق هزيمة حاسمة بالولايات المتحدة لو اندلعت الحرب آنذاك"، بحسب مسؤولي الاستخبارات الأميركيين.
إضافة إلى هانسن، يبرز اسم ألدرتش إيمز، وهو ضابط مسؤول عن عمليات التجسس (في الخارج) في وكالة الاستخبارات المركزية، ألقى مكتب المباحث الجنائية الفيدرالي القبض عليه في فبراير/شباط 1994، بتهمة التجسس لبيعه أسرارا أميركية مهمة لروسيا منذ العام 1985. وقام بالتجسس في مراكز عمله في الخارج في روما والولايات المتحدة.
وتكمن خطورة ألدرتش إيمز أنه كشف عن المئات من عمليات التجسس البشرية الأميركية لدى الاتحاد السوفييتي قبل انهياره. ويعتقد الأميركيون أن جميع أعضاء شبكات التجسس الأميركية في الاتحاد السوفييتي إما سجنوا أو قُتلوا.
ومن الجواسيس البارزين أيضاً المهندس الأميركي الصيني تشي ماك، الذي حوكم في كاليفورنيا عام 2007 بتهمة الكشف عن معلومات بحرية أميركية سرية للغاية للحكومة الصينية. وعمل ماك كمتعاقد مع سلاح البحرية الأميركي في برنامج الإبحار الكهربائي، واعترف بأنه استمر في تزويد الصين بالمعلومات منذ العام 1983 حتى تاريخ القبض عليه. وقيل حينها إنه كشف للصينيين عن تكنولوجيا توزيع الطاقة لنظام الرادار في السفن والغواصات الحربية، وهو ما قلّص قدرة الردع لدى سلاح البحرية في مضيق تايوان. وتكمن أهمية هذا التجسس في ناحيته المالية، إذ يمكن للخصوم أن يستفيدوا من ميزانية البحث والتطوير الأميركية في دعم قدراتهم القتالية مجاناً.
بين المخبرين السرّي والصحافي
ولم يُعرف بعد كيف تم الاشتباه بالجواسيس الروس المزعومين في نيويورك، ولكن إعلان الكشف عن وجودهم تزامن مع صدور حكم بالإدانة على المسؤول السابق في وكالة الاستخبارات المركزية، جيفري ستيرلينغ، الذي لم يتهم بالتجسس لأي طرف خارجي بل لصالح صحيفة "نيويورك تايمز". وسلطت إدانة ستيرلينغ الضوء على ظاهرة أميركية جديدة هي التجسس لصالح الصحافة، كما أثارت تلقائياً الجدل حول ضوابط العلاقة بين المخبر السري والمخبر الصحافي، وأوجه الشبه والتضاد بين وظيفة تستند على كتم الأسرار وحرفة قائمة على نشر الأسرار.
وتزامن ذلك مع حالة مستمرة من القلق الأميركي على المنظومة الاقتصادية والمعلومات السرية المودعة في خزائن الكترونية وشبكات معلوماتية، تكبد الموازنة الأميركية مليارات الدولارات لحمايتها من التسلل أو الاختراق بأيادٍ خارجية. وهذا الخوف الأميركي له ما يبرره، إذ إن الولايات المتحدة تقف على رأس أهم الدول المستهدفة بالتجسس، ليس من قبل روسيا وحدها بل من قبل "140 جهاز استخبارات أجنبياً يحاول اختراق الولايات المتحدة أو مصالح أميركية في الخارج. وتمثل أميركا لهذه الأجهزة الأجنبية الهدف رقم 1"، بحسب مسؤول رفيع عن مكافحة التجسس، يعمل في مكتب مدير الاستخبارات القومية، فضل عدم نشر اسمه لـ"العربي الجديد". ويشرف مكتب الاستخبارات القومية على 16 جهاز استخبارات أميركي، ويتبع للبيت الأبيض مباشرة، وعلى وجه التحديد لرئيس الولايات المتحدة الأميركية.
وفي الوقت الذي تنتقد فيه الصحافة الأميركية أجهزة الاستخبارات الأميركية، لأنّها تُخفي عملاءها في كثير من الأحيان في هوية الصحافيين بغرض الحصول على المعلومات التي تريدها، وهو ما يعرّض عمل الإعلامي للخطر، تشكو الأجهزة الاستخباراتية في المقابل من الصحافة لأنها تتبنى الهاربين من عالم الاستخبارات، ولعلّ أبرزهم عميل وكالة الأمن القومي الأميركية إدوارد سنودان، الذي احتضنته روسيا والصحافة على حد سواء. وسرّب سنودان معلومات سرية تتعلق ببرنامج تجسس إلكتروني تديره وكالة الأمن القومي الأميركية على المكالمات الهاتفية والمراسلات الإلكترونية منها أيضاً على الدول الأوروبية.
الاقتصاد هو الهدف
وتشتبه أجهزة الاستخبارات الأميركية في أنّ الاستخبارات الروسية تبغي من وراء استهدافها للمؤسسات الاقتصادية الأميركية، عبر نشر الجواسيس والقرصنة الالكترونية، التوفيق بين المعلومات المستقاة من مصادر بشرية مع تلك المستقاة من الاختراق الالكتروني. وبمعنى آخر، فإنّ تلك المصادر البشرية هي التي تساعد على نجاح الاختراق الإلكتروني. ففي أواخر أغسطس/ آب الماضي، حقق مكتب "أف بي آي" في اختراق روسي لبنوك أميركية. وأعلنت مصادر أميركية أن قراصنة كمبيوتر روساً (هاكرز) تمكنوا من اختراق النظام الالكتروني لشركة "جاي بي مورجان" المالكة لبنك "تشايز" الأميركي الشهير في منتصف الشهر الجاري، إلى جانب اختراقات أخرى لبنوك ترددت في الاعلان عن تعرضها للاختراق. وقالت محطات تلفزة أميركية إن القراصنة الروس ربما تكون دوافعهم انتقامية نتيجة للحصار الاقتصادي الأميركي المفروض على بلادهم. كما تحدثت الصحافة الأميركية عن تمكن القراصنة الروس من الوصول إلى خزائن كلمات السر لآلاف العملاء والمستثمرين في عدة بنوك وشركات أميركية.
وفيما يركز الأميركيون حالياً على عدو خارجي يتمثل في تنظيمات مثل "القاعدة" و"داعش"، يحدق خطر كبير بأمنهم يقوم على تقنية المعلومات، ويأتي من بلاد بعيدة، من روسيا والصين وكوريا الشمالية، أو حتى الهند.