حرب أخرى خطيرة في القدس
لم تكن حرب المصطلحات والمسمّيات التي تطلقها إسرائيل، بين فترة وأخرى، غائبةً عن الإعلاميين الفلسطينيين الذين أدركوا، منذ البداية، أن دولة الاحتلال تضخ، بآلتها الإعلامية القويّة، سموماً يجب التنبّه إلى مخاطرها، فعملوا ضمن سياسة تحريرية وطنية، باتت تسمّي الأمور بمسمياتها الحقيقية، وإن سها بعضهم، أو أغفل، أحياناً، فتركها من دون تغيير أو تعديل.
انقسمت قنوات فضائية ووكالات أنباء إلى فسطاطين: الأول انتبه، وكان واعياً وحريصاً على عدم الوقوع في الشرك الصهيوني، والآخر استمر في غيّه واستهباله، إلى درجة أنّه ما زال يسمّي شهداءنا بالقتلى، وجيش الاحتلال، الذي ارتكب، وما زال، أفظع الجرائم، بجيش الدفاع الإسرائيلي، ويضفي على حركات المقاومة صفة التشدّد والتطرّف.
ويحزّ في النفس، حين تبلع وسائل إعلام فلسطينية وعربية الطعم الإسرائيلي، فتصف العمليات الاستشهادية بالانتحارية، أو الإرهابية، وتسمّي الضفة الغربية يهودا والسامرة، والفدائيين المقاومين بالمخربين أو الإرهابيين، وتردد بغباء: السور الواقي أو الجدار الآمن، بدل جدار الفصل العنصري، وحاجز إيرز بدل معبر بيت حانون، وحائط المبكى، بدل حائط البراق، وهار حوما بدل جبل أبو غنيم، وأشكلون بدل عسقلان، ومعبر اللنبي بدل معبر الكرامة، والأمثلة كثيرة، ولا تغيب عن المستمعين والقرّاء.
أدركت فصائل المقاومة الفلسطينية أهمية الأمر، فبادرت منذ بدء العدوان، أخيراً، على قطاع غزة (حرب تموز) إلى تسميته (العصف المأكول)، حسب حركة حماس، و(البنيان المرصوص)، حسب حركة الجهاد الإسلامي، رداً على التسمية الصهيونية (الجرف الصامد). وكذلك عام 2008/2009 حين سمّتها (معركة الفرقان)، رداً على تسمية الاحتلال (الرصاص المصبوب). كلّ هذا ينمّ عن وعي كبير، ترافق مع صمود وبسالة ومقاومة، لم تُتح لإسرائيل الفوز، وإن كبُر حجم التضحيات.
في الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987، دخل مصطلح الانتفاضة القاموس العالمي، غير أنه في الانتفاضة الثانية (الأقصى) توالت الاجتياحات الإسرائيلية، بمسمياتٍ صهيونية متعددة ومتكررة، باتت هي التي تتردد على الألسنة، للأسف، فكان معظمهم يردد إعادة انتشار الجيش الإسرائيلي، بدل أن يسمّي ذلك انسحاباً، وكذلك الأمر حين تتوغل قوات الاحتلال في المدن والقرى وتمعن فيها قتلاً ودماراً.
هكذا هي السياسة الإسرائيلية، شعارها (اكذبْ حتى تُصدّق)، وتؤمن أن (الكبار يموتون والصغار ينسون). ومن هذا القبيل، تظل تكذب وتكرّر الكذب، حتى يصير أمراً واقعاً، ولا يجد الناس رواية غيره. وضمن هذه السياسة، تأتي قضية تحريف المناهج الفلسطينية في مدينة القدس المحتلة، وتزويرها، لإفراغها من بُعدها الوطني، ولفرض منهاجها الإحلالي التدميري، الساعي إلى غسل أدمغة الجيل، وإسقاطه. لذلك، سعت إلى شطب جميع المظاهر الوطنية والعربية والدينية، وتلك التي تحضّ على حب الوطن وتمجيد الشهداء.
وهنا، يأتي دورنا الرسمي والشعبي، في مقاومة التهويد والتخريب، والاستلاب والتحريف، والتشويه والتزوير الممنهج، الذي يسعى إلى اجتثاثنا من جذورنا، وأرفع القبّعة احتراماً لكل مَن تنبّه إلى خطورة المصطلحات، وتحريفها وتشويهها. فقد بدأ المقدسيون يستشعرون خطر حرب مصطلحات صهيونية خفيّة، تقوم بها سلطات الاحتلال في القدس المحتلة، مستغلة الظروف والأجواء المتصاعدة، ظنّاً منها أنه لن ينتبه لذلك أحد، فبدأت تغيير أسماء الشوارع والحارات والمرافق الدينية بأسماء توراتية صهيونية. وليس ذلك فحسب، بل طمست الاسم العربي الإسلامي، وغيّبت معناه مطلقاً، فصارت تكتب الاسم الصهيوني برسم خط عربي، ولكن بلهجته الصهيونية، فخلال العدوان على قطاع غزة، غيّرت اسم شارع أبو عبيدة في منطقة الشيخ جراح، شمال غرب القدس، لأن الناطق الرسمي باسم كتائب القسام كان يحمل المسمى نفسه، والمقصد ألا يرسخ الاسم في الذاكرة، وأزاحت يافطة باسم جبل المشارف في القدس، وكتبت عليه بالانجليزية سكوبس، وفي العبرانية هار هتسوفيم، ومثلها بالعربية، وغيّرت اسم باب السلسلة إلى باب الهيكل، واسم رباط الكرد إلى حائط المبكى الصغير، كما أنها وضعت لافتة تشير إلى المسجد الأقصى باسم (هار هبايت)، ومصطلح ذا تمبل ماونت باللغة الإنجليزية، ومصطلح الحرم القدسي باللغة العربية، بينما استعمل اسم "هكوتيل همعربي" بالعبرية، واسم "ذا ويسترن وول" بالانجليزية، واسم الجدار الغربي، على حائط البراق. وكذلك فعلت مع باب العامود فكتبت (شاعر شخيم)، يعني باب نابلس وبالانجليزية (دمسكس جيت) يعني باب دمشق.
وهنا، أحيي "مؤسسة الأقصى للوقف والتراث" التي دعت إلى تأليف قاموس مصطلحات لغوي تأريخي إسلامي عربي، وترجمته باللغات العالمية بالشكل الصحيح، والعمل على اعتماده فلسطينياً وعربياً وإسلامياً وعالمياً، في كل المجالات، خصوصاً الإعلامية، وأحيي كذلك الصديق الإعلامي والأكاديمي، علي الجريري، الذي تنبّه إلى خطورة الأمر، فألّف كتاباً نشره أخيراً، سمّاه "القدس العتيقة.. الذاكرة والهوية ـ تهويد المسميات وسحق المخطوطات العربية"، لعلّه يؤذّن في طلبته الجامعيين بالانتباه، فتتحقق الصحوة، في زمن كثر فيه الذين ناموا ولم يستيقظوا!