11 سبتمبر 2024
حرائق السياسة في صيف الجزائر
لم يمض على تعيين، عبد المجيد تبون، رئيساً للحكومة الجزائرية إلا شهران وعشرون يوماً، ليأتي قرار عزله موقعاً باسم رئيس الجمهورية، عبد العزيز بوتفليقة، بعد صراع علني مع منتدى رجال الأعمال ورئيسه، علي حداد، بعد رفع تبون راية فصل المال عن مزاولة السياسة. أصبحت حكومة عبد المجيد تبون الأقصر مدة في تاريخ الجزائر، متجاوزة حكومة أحمد بن بيتور التي دامت ثمانية أشهر سنة 2000، انتهت باستقالة بن بيتور بعد خلافه على أساليب الحكم مع بوتفليقة.
هي أساليب الحكم نفسها، أو صراع العصب بالأحرى الذي سيكون قطب الرحى في علاقة تبون بالرئاسة، والرئاسة ليست بالضرورة رئيس الجمهورية المُقعد عن الحركة، والعاجز عن الكلام، ناهيك عن وظائف الدولة ومتطلبات الحكم وقراراته الحازمة ومشكلاته المتراكمة. وعلى الرغم من القسم المغلظ الذي حلفه أمام الصحافة الأمين العام لحزب جبهة التحرير، جمال ولد عباس، وقال فيه "إن بوتفليقة هو من يُوقع التعليمات الرئاسية، وأقسم بالله العظيم أنه الذي يُسَيِّرُ البلاد"، إلا أن سياسيين كثيرين قالوا إنه يُفهم من إصرار ولد عباس على تأكيد تمام صحة الرئيس غير ذلك.
إذن، من يتخذ القرارات في قصر المرادية في ظل قعود الرئيس عن أداء مهامه؟. ومن أصدر رسالةً باسم رئيس الجمهورية، دعم من خلالها رجال الأعمال، وأمر رئيس الحكومة بقوله: "أوقفوا التحرش برجال الأعمال"، واتخذ قراراتٍ اقتصادية مخالفة لقرارات عبد المجيد تبون، وطالبه وقف مبادراته للحد من نفوذ رجال الأعمال؟ تُشير الأصابع كلها إلى السعيد بوتفليقة، شقيق الرئيس، حيث تُجمع الشهادات أن هذا الرجل، نحيف الجسم صغير البنية، ذا العينين الزرقاوين الحادتين، استطاع بعد مرض أخيه أن يحل محله في اتخاذ القرارات المصيرية، مثال ذلك توحي به الرسالة موضوع النزاع، والتي سُربت إلى صحيفة قريبة منه، بدل نشرها في وكالة الأنباء الحكومية، أو وسائل الإعلام الرسمية، كما تقول الأخبار، إن الرسالة تم تحريرها في مكتب أحمد أويحيى، الذي كان رئيس ديوان رئيس الجمهورية، وعُين رئيساً للحكومة للمرة الثالثة بعد تنحية تبون.
حاول الأمين العام لجبهة التحرير الوطني رفع اللبس عن القرارات التي تصفها الصحافة
الجزائرية أنها "مجهولة"، على الرغم من صدورها باسم رئيس الجمهورية. وقال "إن عبد العزيز بوتفليقة هو الحاكم الفعلي وصاحب القرار في البلاد، خلافًا لما يُرَوَّجُ من إشاعات، حول سُلطة موازية حلّت محله". لا يصدق الجزائريون كثيراً هذا الكلام، فالصور التي نشرتها الصحف والمواقع الجزائرية لجنازة رئيس الحكومة الأسبق، رضا مالك، أظهرت مدى الانسجام الكامل بين السعيد بوتفليقة وعلي حداد ورئيس الاتحاد العام للعمال الجزائريين عبد المجيد سيدي السعيد، وعاب الجزائريون على الثلاثي قهقهتهم المرتفعة التي خرقت وقار الجنائز، وتزاحمت مواقع التواصل الاجتماعي باللوم والنقد اللاذعين لهذه التصرفات. في الصورة نفسها، ظهر عبد المجيد تبون منفرداً، متجهم الوجه. وبقراءة سريعة لسيميائية الصورة، أدرك الجميع بوضوح أن رئيس الحكومة أصبح في حكم المنعزل أو المعزول.
ما حدث يُذكِّر بوقائع المسلسل الأميركي "بيت من ورق" تأليف بو ويلمون وإخراج كارل فرانكلين. تدور أحداثه حول الدسائس والنزاعات التي يقوم بها الساسة الأميركيون من أجل الظفر بمناصب عليا في البيت الأبيض، أو الوزارات والإدارات الأميركية المختلفة، وما يُشحذ لها من همم ومال وجاه وذمم. الفرق أن شخصيات "بيت من ورق" يسعون، كما تقول الحكاية، إلى تحقيق مجد أميركا أولاً، ومجدهم الشخصي مُرفقاً.
لم تكف الحرائق التي أتت على آلاف الهكتارات من الغابات، الصيف الجاري، لتشكل صداعاً كبيراً في رأس الحكومة، فزادتها البلبلة التي أثارها موضوع الخلاف بين الرئاسة الجزائرية ورئيس الحكومة تأزماً، بعد موقف تبون من رجال الأعمال الذين انغمسوا في السياسة، وصار لهم باع طويل في مزاولة مهام الدولة الرسمية، وما تلا ذلك من تشكيكٍ في أهلية الرئيس بوتفليقة لإدارة البلاد. سربت صحيفة مقرّبة من شقيق الرئيس جدول تحرّكات رئيس الحكومة في أثناء عطلته خارج البلاد. غاص مقالها في تفاصيل يوميات إجازته، وتحركاته والفنادق التي نزل فيها، وكادت أن تنشر رقم غرفه أيضاً. ليتساءل الناس بعدها، من أين حصلت الصحيفة على هذه المعلومات الأمنية؟. هم يعلمون أن جواب ذلك يعرفه المتابعون لتحالفات الصحيفة التي لا تخفيها. استكمالاً للحملة ضد تبون، انبرت صحف وقنوات تلفزيونية أخرى، قريبة من المصادر نفسها، لاتهامه بالتقصير في مهامه، وفي محاربته رجال الأعمال وإساءته لسمعة الجزائر. استوت الطبخة لمناوئي تبون، وأُكل يوم أكل الثور الأبيض.
هل كان عبد المجيد تبون بطلاً لا يُشق له غبار، في مواجهة الفساد السياسي والمالي؟ يعتقد
عامة كثيرون ذلك، فقد تداعى بعضهم عبر "فيسبوك" إلى نصرته، ونشروا وسماً لأجله، يدعونه فيه إلى الترشح مستقبلاً لرئاسة الجمهورية. ويرى آخرون في الرجل مجرد موظفٍ انتصر لنفسه ولكرامته الشخصية، وأنه ابن النظام، تقلَّب في مسؤولياته المختلفة، وأشرف، كما أشرف مسؤولون آخرون، على إداراته، وانتخاباته المزورة سنين عديدة. ولأنه مجرد موظف فهو لا يستطيع أن يتصرّف إلا في حدود المهمة التي أوكلها له من عينوه رئيساً للحكومة، ذلك أنه لم يستحق منصبه بشرعية شعبية حقيقية، مبنية على انتخاباتٍ حقيقيةٍ نظيفة ونزيهة. يُضيف آخرون أن لا قدرة اليوم لعبد المجيد تبون في مواجهة سلطة تحالف المال والسياسة، وهو تحالف يحضر نفسه لرئاسيات 2019 ، وتلوك الألسن أن السعيد بوتفليقة ليس بعيداً منها.
يَحسب عارفون تبون على الكتلة العسكرية المتنفذة في مواجهة كتلة الرئاسة ورجال المال، ويقولون إن ردها غير متعجل، وهي ليست في وارد الخوض في نزاعات جانبية، وإن غد الانتخابات لناظره قريب. هناك ستكون كلمة الفصل للكتلة العسكرية كالعادة، إما تمديد للرئيس بوتفليقة مادام فيه قلبٌ ينبض، أو بحث عن اسم جديد يُدفع به إلى واجهة الأحداث ورئاسة البلاد. تُحشد لذلك قنوات إعلامية، وإدارات ولجان مساندة، لتنظيم انتخابات صورية، ولا بأس بمراقبين دوليين أفارقة وعرب، يزيدون في طبخة الانتخابات نكهة.
هي أساليب الحكم نفسها، أو صراع العصب بالأحرى الذي سيكون قطب الرحى في علاقة تبون بالرئاسة، والرئاسة ليست بالضرورة رئيس الجمهورية المُقعد عن الحركة، والعاجز عن الكلام، ناهيك عن وظائف الدولة ومتطلبات الحكم وقراراته الحازمة ومشكلاته المتراكمة. وعلى الرغم من القسم المغلظ الذي حلفه أمام الصحافة الأمين العام لحزب جبهة التحرير، جمال ولد عباس، وقال فيه "إن بوتفليقة هو من يُوقع التعليمات الرئاسية، وأقسم بالله العظيم أنه الذي يُسَيِّرُ البلاد"، إلا أن سياسيين كثيرين قالوا إنه يُفهم من إصرار ولد عباس على تأكيد تمام صحة الرئيس غير ذلك.
إذن، من يتخذ القرارات في قصر المرادية في ظل قعود الرئيس عن أداء مهامه؟. ومن أصدر رسالةً باسم رئيس الجمهورية، دعم من خلالها رجال الأعمال، وأمر رئيس الحكومة بقوله: "أوقفوا التحرش برجال الأعمال"، واتخذ قراراتٍ اقتصادية مخالفة لقرارات عبد المجيد تبون، وطالبه وقف مبادراته للحد من نفوذ رجال الأعمال؟ تُشير الأصابع كلها إلى السعيد بوتفليقة، شقيق الرئيس، حيث تُجمع الشهادات أن هذا الرجل، نحيف الجسم صغير البنية، ذا العينين الزرقاوين الحادتين، استطاع بعد مرض أخيه أن يحل محله في اتخاذ القرارات المصيرية، مثال ذلك توحي به الرسالة موضوع النزاع، والتي سُربت إلى صحيفة قريبة منه، بدل نشرها في وكالة الأنباء الحكومية، أو وسائل الإعلام الرسمية، كما تقول الأخبار، إن الرسالة تم تحريرها في مكتب أحمد أويحيى، الذي كان رئيس ديوان رئيس الجمهورية، وعُين رئيساً للحكومة للمرة الثالثة بعد تنحية تبون.
حاول الأمين العام لجبهة التحرير الوطني رفع اللبس عن القرارات التي تصفها الصحافة
ما حدث يُذكِّر بوقائع المسلسل الأميركي "بيت من ورق" تأليف بو ويلمون وإخراج كارل فرانكلين. تدور أحداثه حول الدسائس والنزاعات التي يقوم بها الساسة الأميركيون من أجل الظفر بمناصب عليا في البيت الأبيض، أو الوزارات والإدارات الأميركية المختلفة، وما يُشحذ لها من همم ومال وجاه وذمم. الفرق أن شخصيات "بيت من ورق" يسعون، كما تقول الحكاية، إلى تحقيق مجد أميركا أولاً، ومجدهم الشخصي مُرفقاً.
لم تكف الحرائق التي أتت على آلاف الهكتارات من الغابات، الصيف الجاري، لتشكل صداعاً كبيراً في رأس الحكومة، فزادتها البلبلة التي أثارها موضوع الخلاف بين الرئاسة الجزائرية ورئيس الحكومة تأزماً، بعد موقف تبون من رجال الأعمال الذين انغمسوا في السياسة، وصار لهم باع طويل في مزاولة مهام الدولة الرسمية، وما تلا ذلك من تشكيكٍ في أهلية الرئيس بوتفليقة لإدارة البلاد. سربت صحيفة مقرّبة من شقيق الرئيس جدول تحرّكات رئيس الحكومة في أثناء عطلته خارج البلاد. غاص مقالها في تفاصيل يوميات إجازته، وتحركاته والفنادق التي نزل فيها، وكادت أن تنشر رقم غرفه أيضاً. ليتساءل الناس بعدها، من أين حصلت الصحيفة على هذه المعلومات الأمنية؟. هم يعلمون أن جواب ذلك يعرفه المتابعون لتحالفات الصحيفة التي لا تخفيها. استكمالاً للحملة ضد تبون، انبرت صحف وقنوات تلفزيونية أخرى، قريبة من المصادر نفسها، لاتهامه بالتقصير في مهامه، وفي محاربته رجال الأعمال وإساءته لسمعة الجزائر. استوت الطبخة لمناوئي تبون، وأُكل يوم أكل الثور الأبيض.
هل كان عبد المجيد تبون بطلاً لا يُشق له غبار، في مواجهة الفساد السياسي والمالي؟ يعتقد
يَحسب عارفون تبون على الكتلة العسكرية المتنفذة في مواجهة كتلة الرئاسة ورجال المال، ويقولون إن ردها غير متعجل، وهي ليست في وارد الخوض في نزاعات جانبية، وإن غد الانتخابات لناظره قريب. هناك ستكون كلمة الفصل للكتلة العسكرية كالعادة، إما تمديد للرئيس بوتفليقة مادام فيه قلبٌ ينبض، أو بحث عن اسم جديد يُدفع به إلى واجهة الأحداث ورئاسة البلاد. تُحشد لذلك قنوات إعلامية، وإدارات ولجان مساندة، لتنظيم انتخابات صورية، ولا بأس بمراقبين دوليين أفارقة وعرب، يزيدون في طبخة الانتخابات نكهة.