حذاء أدهم

08 أكتوبر 2015
سأل أدهم: "يعني ما عاد فيني ألبس البوط؟(فرانس برس)
+ الخط -
لم يترك لهم القصف فرصة التزوّد بأي شيء، ففي آخر زيارة مسروقة لبيتهم في حي الخالدية، كان الهواء المغبر يملاً الفضاء فوق كومة من الركام.


اتجهوا إلى حي الوعر، حرصاً على البقاء في حمص، وخوفاً من لعنة أوليائها وشهدائها الممددين في "الكثيب"، وحفاظاً على خيالاتهم الليلية وصوت "خالد بن الوليد" يأتيهم مطمئناً أو ربما معاتباً.

في أحد الصباحات من العام الفائت، طرق الباب، كانوا شباناً يحملون أكياساً من الملابس والمعونات، "لا تواخذينا يا إختي هَيْ أواعي مستعملة، بس أكيد بيلزموا"، لم تشأ أن تبدي عدم اكتراث بنخوتهم لحظة تدفق اعتذاراتهم، كم أرادت أن تصرخ: "جيتوا بوقتكن، الصغار بلا ثياب"! لكنها تجلّدت، وابتسمت في وجوههم: "كثّر خيركن يا خالة، الله يفرجها ونرجع نلبّسهن جديد".

انصرفوا والتفتت إلى الكيس بمزيج من الفرح والحياء، هي ابنة كبار تجار حيها وزوجة أحد ميسوريهم ممّن صاروا في عداد الشهداء، تقلّب المحتويات، لا بأس بها، ستعمل على تصغيرها بما يناسب أطفالها، إلا هذا الحذاء، بقياس "35"، سيحتاج أدهم عاماً كاملاً حتى يستطيع ارتداءه.

لم يكن هناك مكان لإخفائه، فكان الصغير يستغفلها ليجرّبه، ويحاول كلما رأته إقناعها ببراءته أنه ملائم، فتقول إنها ستسمح له بارتدائه صباح العيد القادم.

أدهم الذي لا يدرك شيئاً عن حمص خارج حدود الشارع، كان يغفو كل ليلة على حكاياتها عن الميماس، عن أبواب حمص، بائعي السوس والحلاوة، "الساعة العتيقة"، الدبلان و"السوق المقبي"، سوق الحشيش، سرافيس "طريق الشام" وتلك الفسح المنشورة بين القلعة وباب السباع.

كانت تتوقف عن الكلام كلما وصلت في الحكاية إلى لحظة "تفتيلة العرسان" عند دوار الغاردينيا، تبتلع غصتها وشوقها لحبيبها، وتتحول إلى الحديث عن مشهد ليلة العيد أمام الجامع الكبير، فيحاول الصغير أن يتخيّله، لكنه يفشل في كل مرة.

جاءت ليلة العيد، وضع أدهم الحذاء بجانب فراشه، غير مكترث بآثار بلائه، فيما قضت شطراً من الليل تراقبه، وأمواج من الضحك والنحيب تتوالى وتتابع على وجهها.

كانت "المرجوحة" وجهته، ينتظر أن ينزل رفاقه لمعاودة الجلوس فيها، أطفال كثر كانوا هناك، بعضهم قضوا عاماً بانتظار أن تلائم الأحذية أقدامهم، وبعضهم خرجوا بما وجدوه على عتبات المنازل مما غارت فيه أرجلهم الصغيرة. لساعات امتلأت تلك البقعة بالأطفال، إلى أن سقط صاروخ "أرض أرض" في المكان، وغطى الأحمر كل شيء.

هرعت كالمجنونة تسأل عن أدهم، أين تجده بين كل هذا العدد من الجرحى، أمهات وآباء يصيحون على أبنائهم وبناتهم، يسألون من يعرفونه ومن لا يعرفونه: "دخيلك شفت لي ابني؟"، "بنتي كانت لابسة فستان زهر وشعرها أشقر مفرود، دخيلك يا خالة شفتها؟"...

شابان كانا يديران تناوب الأطفال على الألعاب وقفا عاجزين أمام أسئلة الأهالي، ينظران بلا حول ولا قوة إلى الأشلاء التي اختلطت بحيث لم يعد تمييزها متاحاً، وعبثاً يحاولان جمع بعضها ومطابقتها..

كانت تبحث بينهم، إلى أن وقعت عينها على ساقه وفردة الحذاء ما زالت مربوطة حول القدم.. مرت ساعة بطول دهر وهي تبحث عن الساق الأخرى أو أي عضو يعود إليه، قبل أن تعلم أنه في المستشفى.

ماذا تفعل بساقه؟ هل تحملها بفردة الحذاء؟ أم تنزعها منها؟ 
كان أدهم يسألها: "ماما يعني ما عاد فيني ألبس البوط؟ خلص خبّيه لأخي مشان يلبسوا السنة الجاي.."، وهي المتهالكة تمسح على بقايا رجله، تفكر بكرسي مدولب أو عكاز حتى وإن كانا "مستعملين"، ثم تجمع فردتي الحذاء في كيس أسود، تخبئهما لصغيرها الذي ستكبر قدمه حتى العيد القادم.


(سورية)
المساهمون