18 سبتمبر 2024
جولات عربيّة على الحلبة التركيّة
للنقاشات السياسية والصحافيّة العربيّة لمنعطفات السياسة التركيّة منذ عام 2011 دورة نمطيّة ثابتة: يظهر "معسكران"، علماني وإسلامي، يناقش الثاني الشأن التركي بحماسة مبالغ فيها، فيبادر الأول باتهامه بعدم وطنيّته، لانشغاله بقضايا غير ذات صلة بالواقع المَحلّي، المُزري بالضرورة، فيرد الثاني بعنفٍ على الاتهام باتهاماتٍ أخرى، ثم ينقضي النقاش بانتهاء الحدث التركي، فتسود هدنةٌ حذرةٌ في انتظار الحدث المقبل. يحدث هذا في نقاشات تهاوي قيمة الليرة التركيّة، كما حدث مع تحول تركيا إلى النظام الرئاسي والمحاولة الانقلابيّة في يوليو/ تموز 2016 وغيرها من الأحداث. في نمط النقاشات الموصوف آنفًا مشكل فكري وسياسي داخلي أكثر أهميّة، وقبل التطرّق إليه، يجب إيضاح ثلاثة أمور بخصوص النمط الخارجي: الأول أنه مجرّد تمظهر مزعج لانقسام سياسي، ظهر بعد الثورات العربيّة عام 2011 وما تلاها، وهو الانقسام العلماني/ الديني، والذي قسم المجتمع وقصم ظهر الثورة لاحقًا. الثاني أن التعاطف الإيديولوجي ليس مشكلة، ولا يقول شيئًا عن وطنيّة الأفراد أو المؤسسات، ولنتذكّر حماسة بعض اليسار العربي (يفترض أنه علماني) والغربي بالفوز الانتخابي لإئتلاف "السيريزا" عام 2015 في اليونان، وأقداح المرارة التي عبّها تاليا مع فشله المدوّي. ولنتذكّر أيضًا أن الانشغال بالشأن التركي يميّز معسكر العلمانيين؛ فالمبالغة في المتابعة وتعبئة الناس ضد تركيا، وإظهار الفرح العارم بكل مشكلة تواجه النظام التركي، هو تعبيرٌ عن انشغالٍ لا يقلّ استغراقًا
عن انشغال الإسلاميين، ويتميّز فقط بأنه يحمل اتجاهًا معاكسًا، ولكن كلا الاتجاهين يقعان على المستوى نفسه. الأمر الثالث أن التعاطف/ الكراهية على أساس إيديولوجي يصير مُشكلًا، إذا استحال موقفا هويّاتيا، أو إذا ناقض مسلّمات المصلحة الوطنيّة، والأخيرة يمهّد لها المثقفون في الكتب والمقالات والمواقف، وجدل النخبة السياسية في المفاصل التاريخيّة، لكنها لا تمتلك وجودًا معتبرًا، يمكن البناء عليه بثقة، إلا بإجماع النخبة عليها دستوريًا وداخل الثقافة السياسيّة؛ فلَوْك عبارة "المصلحة الوطنية" في أفواه الحملات الإعلامية العربية حاليًا (بخصوص موضوع الليرة التركية مثلًا) لا يقدّم ولا يؤخر بدون وجود قسماتٍ لـ "المصلحة الوطنيّة" مُجْمعٌ عليها قَبْليًا.
بالعودة إلى المشكل الداخلي للجدل العربي الاستقطابي إزاء الشأن التركي تحديدًا، نجد ملمحين رئيسيين، أوضحهما أن كلا المعسكرين، الديني والعلماني، يمارسان في كل خطوة الخيانة الإيديولوجيّة. ويحاول المقال عدم التطرّق للأسس الأخلاقيّة المفترضة للإيديولوجيّات، حتى لا نضطر لنقاش المسألة الأخلاقيّة، ونبقى في النطاق الإيديولوجي. الإخواني مثلًا، ومن يقف على يمينه من الإسلاميين، المفتون بالتجربة التركية، والذي يكرّس نفسه للدعاية المجانيّة لحزب العدالة والتنمية في الوطن العربي، ويُحارب، في الوقت نفسه، كل دعوة إلى إقامة دولة عربيّة علمانيّة، ويصر على تصوّره الثيوقراطي للدولة، يخون أيديولوجيّته، وبالتالي تفقد معركته عمومًا المصداقيّة، لأن الافتتان بتركيا العلمانيّة، مع محاربة كل طرح لبناء دولة علمانيّة عربية بمختلف الوسائل (بما فيها التكفير والتحريض الديني) هو بوضوح نفاقٌ لا يشجع شخصًا عقلانيًا على أخذهم سياسيًا وأيديولوجيًا على محمل الجد، وليس ثمّة من مغيّر لهذه الحال إلا أحد خيارين: أن يقود الإخواني تحولًا إيديولوجيًا إزاء العلمانيّة، أو أن يمدّ خطوطه الإيديولوجيّة على استقامتها، فيحارب العلمانية "في كل بقاع المسلمين"، ومنها تركيا. في المعسكر المقابل، وقف علمانيون يدّعون الديمقراطيّة، بفرح كبير، مع المحاولة الانقلابية على حكومة حزب العدالة والتنمية المنتخبة عام 2016. ليس كل علماني ديمقراطيًا، ولكن كل ديمقراطي علماني بالضرورة (أي يرفض ممارسة الدولة للإملاء الديني، ويرى الشعبَ المصدرَ الأول للسيادة وشرعيّة الدولة). وبالتالي، وإذا تغافلنا عن الأسس القيميّة للديمقراطية، وتعاملنا معها باعتبارها جزءا من إيمان إيديولوجي، أو مجرّد مخرج جيّد لمشكلة الاستبداد، نجد أن هذا الديمقراطي خان إيديولوجيّته كذلك، وفقدت معركته معناها، لأنها بلا مصداقيّة، وكان عليه مراجعة تاريخ مواقفه والتحول نحو الدمقرطة الصادقة، أو القول علنًا، باتساق مع مجمل مواقفه، أنه علماني غير ديمقراطي (وتاريخيًا هذا يعني أنه مشروع فاشيّ) أو مجرّد كاره للإسلاميين.
الملمح الثاني يقودنا إليه الأول؛ فهو الجواب على السؤال عن السياق الذي سمح بممارسة نخب
المعسكرين الزيف الإيديولوجي، من دون الخوف من تحلل قواعدها وفقدانها المصداقية. السبب أن هذين الطرفين، منذ نهاية عام 2012، أي حين دخل الصراع بين الإخوان المسلمين والمعارضة في مصر مرحلة العداء المفتوح، لم يعودا ممثلي عقائد سياسيّة، بل هُويّات. وفي الصراع الهويّاتي فقط، تجد النزوع إلى إفناء الخصوم، مهما كلف الأمر، وإن كان الثمن هو الأفكار والرؤى العقائديّة. وفيه أيضًا تجد التعصّب للطرف بوصفه طرفًا، وليس بوصفه متبنيًا إيديولوجيا معيّنة. ولهذا لا تضر القياداتِ تناقضاتُها الإيديولوجيّة؛ فهي لا تلعب دورًا في مدى تعصّب القواعد للقيادات، والزعامات الطائفية اللبنانيّة مثال جيّد؛ فأغلبها ارتكب سابقًا جرائم القتل والنهب، وكلها في ما بينها تراوح بين العداء الهمجي والصداقة الحميمة في طرفة عين، من دون أن يُنقص ذلك من مصداقيتها عند مناصريها وقواعدها؛ فالعقل لم يعد أصلًا ذا صلة بالموضوع، حتى يكون لمدى الاتساق الإيديولوجي دورٌ في تحديد المصداقيّة.
وهذا ما يبدو عليه الأمر راهنًا في المعسكرين العلماني/ الديني عربيًا في نظرتهما إلى الشأن التركي وغيره، وإن كانت حالة "التّلبْنُن" هذه لا تطيق الاستمرار طويلا، لأسبابٍ لا مجال هنا لنقاشها. في هذا السياق، يُطرح السؤال عن الحل، وكما رأينا آنفًا، يبدو الإشكال ناشب الجذور في الحياة السياسيّة، ولن يُحَل إلا بخطوات تاريخيّة، مثل تحقيق النخبة الإجماع على المصلحة الوطنيّة فوق الصراع السياسي، ثم الإعلاء من شأن الالتزام الإيديولوجي داخل الحياة الحزبيّة، وغيرها من الخطوات. ولكن، في الوقت الراهن، يبدو أن المساهمة الممكنة هي توسيع نطاق المطلعين على الطرح النقدي في الشأن السياسي. وفي موضوع الليرة التركية مثلًا، نشر مثقفون وأكاديميون ومؤسسات ومواقع كثيرة تحليلاتٍ سياسية واقتصادية رصينة وهادئة؛ فليس واقع النقاش العربي كله جدلًا مجنونًا بلا حدود، لكن المشكلة أن للخطاب المجنون ظروفا مساعدة كثيرة حاليًا، والمهمة الأولى الآن هي في توسيع نطاق المطلعين على الطرح النقدي ببناء منابر صحافيّة جيّدة، ومساحات للتحليل السياسي والاقتصادي الاختصاصي.
بالعودة إلى المشكل الداخلي للجدل العربي الاستقطابي إزاء الشأن التركي تحديدًا، نجد ملمحين رئيسيين، أوضحهما أن كلا المعسكرين، الديني والعلماني، يمارسان في كل خطوة الخيانة الإيديولوجيّة. ويحاول المقال عدم التطرّق للأسس الأخلاقيّة المفترضة للإيديولوجيّات، حتى لا نضطر لنقاش المسألة الأخلاقيّة، ونبقى في النطاق الإيديولوجي. الإخواني مثلًا، ومن يقف على يمينه من الإسلاميين، المفتون بالتجربة التركية، والذي يكرّس نفسه للدعاية المجانيّة لحزب العدالة والتنمية في الوطن العربي، ويُحارب، في الوقت نفسه، كل دعوة إلى إقامة دولة عربيّة علمانيّة، ويصر على تصوّره الثيوقراطي للدولة، يخون أيديولوجيّته، وبالتالي تفقد معركته عمومًا المصداقيّة، لأن الافتتان بتركيا العلمانيّة، مع محاربة كل طرح لبناء دولة علمانيّة عربية بمختلف الوسائل (بما فيها التكفير والتحريض الديني) هو بوضوح نفاقٌ لا يشجع شخصًا عقلانيًا على أخذهم سياسيًا وأيديولوجيًا على محمل الجد، وليس ثمّة من مغيّر لهذه الحال إلا أحد خيارين: أن يقود الإخواني تحولًا إيديولوجيًا إزاء العلمانيّة، أو أن يمدّ خطوطه الإيديولوجيّة على استقامتها، فيحارب العلمانية "في كل بقاع المسلمين"، ومنها تركيا. في المعسكر المقابل، وقف علمانيون يدّعون الديمقراطيّة، بفرح كبير، مع المحاولة الانقلابية على حكومة حزب العدالة والتنمية المنتخبة عام 2016. ليس كل علماني ديمقراطيًا، ولكن كل ديمقراطي علماني بالضرورة (أي يرفض ممارسة الدولة للإملاء الديني، ويرى الشعبَ المصدرَ الأول للسيادة وشرعيّة الدولة). وبالتالي، وإذا تغافلنا عن الأسس القيميّة للديمقراطية، وتعاملنا معها باعتبارها جزءا من إيمان إيديولوجي، أو مجرّد مخرج جيّد لمشكلة الاستبداد، نجد أن هذا الديمقراطي خان إيديولوجيّته كذلك، وفقدت معركته معناها، لأنها بلا مصداقيّة، وكان عليه مراجعة تاريخ مواقفه والتحول نحو الدمقرطة الصادقة، أو القول علنًا، باتساق مع مجمل مواقفه، أنه علماني غير ديمقراطي (وتاريخيًا هذا يعني أنه مشروع فاشيّ) أو مجرّد كاره للإسلاميين.
الملمح الثاني يقودنا إليه الأول؛ فهو الجواب على السؤال عن السياق الذي سمح بممارسة نخب
وهذا ما يبدو عليه الأمر راهنًا في المعسكرين العلماني/ الديني عربيًا في نظرتهما إلى الشأن التركي وغيره، وإن كانت حالة "التّلبْنُن" هذه لا تطيق الاستمرار طويلا، لأسبابٍ لا مجال هنا لنقاشها. في هذا السياق، يُطرح السؤال عن الحل، وكما رأينا آنفًا، يبدو الإشكال ناشب الجذور في الحياة السياسيّة، ولن يُحَل إلا بخطوات تاريخيّة، مثل تحقيق النخبة الإجماع على المصلحة الوطنيّة فوق الصراع السياسي، ثم الإعلاء من شأن الالتزام الإيديولوجي داخل الحياة الحزبيّة، وغيرها من الخطوات. ولكن، في الوقت الراهن، يبدو أن المساهمة الممكنة هي توسيع نطاق المطلعين على الطرح النقدي في الشأن السياسي. وفي موضوع الليرة التركية مثلًا، نشر مثقفون وأكاديميون ومؤسسات ومواقع كثيرة تحليلاتٍ سياسية واقتصادية رصينة وهادئة؛ فليس واقع النقاش العربي كله جدلًا مجنونًا بلا حدود، لكن المشكلة أن للخطاب المجنون ظروفا مساعدة كثيرة حاليًا، والمهمة الأولى الآن هي في توسيع نطاق المطلعين على الطرح النقدي ببناء منابر صحافيّة جيّدة، ومساحات للتحليل السياسي والاقتصادي الاختصاصي.