يستيقظ سامر الحموي مبكرا منذ أسبوع كامل، كل يوم يسرع في طريقه ليحجز مكاناً ضمن طابور طويل ممتد يصل خارج دائرة الهجرة والجوازات في دمشق، مئات غيره أتوا من كل حدب وصوب، جمعهم كابوس البحث عن جواز السفر السوري الذي يطاردهم حتى في نومهم.
التحقيق التالي يجيب عن سؤال كيف يحصل السوريون على جواز السفر في زمن الحرب وينقل معاناتهم بين سطوره.
"يبدأ الطابور الطويل أمام الدائرة منظما لكن سرعان ما تسوده الفوضى"، يقول سامر الذي دفع 30 ألف ليرة سورية (ما يقارب 240 دولاراً أميركياً) لاستصدار الجواز الذي يكلف 5000 ليرة سورية قانونياً (أي 60 دولارا)، لكن سامر اضطر لدفع ستة أضعاف المبلغ للحصول على جواز سفر لابنه، الذي يحتاج إلى سفر عاجل للأردن للعلاج بعد أن سقطت عليه قذيفة استقرت شظية منها في دماغه.
"انتظرت أسبوعا كاملا فقط للحصول على موعد استصدار الجواز" يضيف سامر وهو يصف المعاملة السيئة جدا التي عانى منها - على حد قوله -.
الرشوة المذلة
آلاف السوريين تتلخص أحلامهم منذ اندلاع الثورة بالحصول على جواز سفر بشكل طبيعي، يحاولون في البداية - وفق الإجراءات المرعية في دائرة الهجرة والجوازات - تمرير أوراقهم لكن "عليك أن تدفع رشوة، وإذا فكّرت بتسريع معاملتك فورا فإن الرشوة تتضاعف"، يضيف سامر الذي لجأ إلى سمسار يتعامل مع موظفي المديرية لإتمام الأمر.
بعد أن كانت الرشوة في دوائر الهجرة والجوازات السورية خيارا يسرّع من المعاملات، فإنها تحولت في الفترة الأخيرة إلى فرض عين على الجميع. إذ يتّبع موظفو الدائرة أساليب أمنية لإجبار السوريين على الأمر كما حدث مع الشاب مرهف (اسم مستعار) - 25 عاما - عندما توجه إلى فرع الهجرة والجوازات في ريف دمشق لاستصدار جواز، فإذا بالموظف يقوم بكتابة اسمه على الحاسوب وفجأة يباغته بجملة "أنت مطلوب لفرع المخابرات الجوية"، يُكمل مرهف قصته التي يبدو أنها أسلوب متبع ومتكرر "عندما سمعت جملة الموظف توقف الدم في عروقي، فالجميع يعلم ماذا يعني فرع المخابرات الجوية، لم أهمس ببنت شفة حتى عاد الموظف وقال: لكن يمكن أن نتدبر الأمر لو أحببت، ثم طلب مني 50 ألف ليرة سورية مقابل حجب اسمي من القائمة، وبالتالي أستطيع الحصول على الجواز".
لم يتردد مرهف وأهله بدفع الرشوة، قاموا بمقابلة الموظف خارج المديرية وتم تسليمه المبلغ، ولكن بعد تلك الحادثة التقى مرهف بأكثر من شاب من أصدقائه تعرضوا لنفس الموقف، ليظهر في النهاية أنها لعبة يتبعها موظفو الهجرة والجوازات لابتزاز الناس مستغلين خوفهم من فروع الأمن وحاجتهم الماسة لجواز السفر.
مسافر سوري على الحدود اللبنانية (فرانس برس/Getty) |
أول الغيث
قصص المعاناة السابقة يمكن اعتبارها أول الغيث، فإذا ما قرر المواطن السوري السفر خارج البلاد، بواسطة الجواز الكحلي الذي يتوسطه نسر يفرد جناحيه، فلن يتمكن النسر من مغادرة الأجواء السورية، لأن العديد من المطارات مغلقة بوجهه، أو أن معاملتها لن تكون بأفضل من دائرة الهجرة والجوازات في سورية، "ما أن تعبر الحدود السورية وتودع نظرات الشك التي يرمقك بها ضابط الأمن السوري، حتى تستقبلك نظرات الازدراء من الجانب اللبناني والتي تبدأ بمجرد إبراز جواز السفر"يقول ناصر (اسم مستعار)، الذي لجأ إلى لبنان بشكل نظامي عبر المعبر البري الواقع في نقطة المصنع. ويضيف"إجراءات التدقيق مشددة جداً فهم يفحصون الجواز جيداً وكأنك لم تخرج من المعبر السوري بشكل قانوني، ناهيك عن الازدراء الذي يرافق عملية الدخول، ولكن بكل الأحوال يبقى المعبر البري أرحم من إجراءات مطار بيروت".
مشكلة مطار "رفيق الحريري" مع حاملي جواز السفر السوري، يؤكدها صاحب شركة "فلاي كوين" لخدمات الطيران، قصي عبد الرحمن بقوله لــ"العربي الجديد"عندما تحجز بطاقة طائرة إلى لبنان بجواز سفر سوري، لابد أن تحجز باتجاهين (ذهابا وإيابا) وإلا فلا تستطيع دخول لبنان، لتضمن السلطات اللبنانية بأنك ستغادر البلاد".
يردف قصي بزفرة حانقة "وصلنا تعميم بخصوص منع السوريين من دخول الأردن إلا، (حاملي الإقامة في الأردن - الذين يحملون إقامة في أميركا- أوروبا- دول الخليج، إضافة إلى ركاب الترانزيت الذين يحملون تذاكر سفر مؤكدة حجزاً لما وراء الأردن)".
التزوير هو الحل
المغتربون السوريون لهم نصيب كبير من مذلة الحصول على جواز السفر، إذ يواجهون معضلة تجديد الجوازات خصوصاً بعد إغلاق سفارات النظام في أكثر من دولة عربية، ما عدا السفارة السورية في الدوحة، والتي حاولت تقديم خدمات لمساعدة السوريين أكثر من مرة، لكن الجوازات التي قد يستصدرها الائتلاف السوري المعارض تواجه مشكلة قانونية لغاية الآن بأنها غير صالحة للسفر لمعظم بلدان العالم.
ونتيجة لتلك العراقيل انتشرت ظاهرة تزوير جواز السفر السوري بأوساط السوريين المغتربين منهم واللاجئين ومن بينهم مالك عرفة -اسم مستعار- الذي لجأ إلى تركيا دون جواز سفر، لكنه نجح في الوصول إلى أوروبا والتقديم عبر جواز سفره للحصول على إقامة بالدولة التي لجأ لها.
"لجأت إلى مزور سوري دلّني إليه بعض الأصدقاء، فطلب مني 1000 دولار وبياناتي الشخصية كاملة، وبعد أسبوع سلمني جواز سفر سورياً باسمي" قال عرفة .
عليك بـ "القنصل"
أما يامن - المقيم في مصر - وبعد أن رفضت السفارة السورية في القاهرة تجديد جوازه لنشاطه ضمن المعارضة، قام بتمديده عبر مزور في تركيا، لمدة أربع سنوات، يشرح يامن الأمر "سمعت من أصدقائي بأن تجديد الجواز سهل في تركيا، فأرسلته عبر DHL إلى أحد أصدقائي الذي أخذه بدوره إلى القنصل، وهو مزور معروف في اسطنبول، فقام بوضع لصاقة التجديد على الجواز مقابل 400 دولار".
"عليك بالقنصل" نصيحة تتردد في أوساط السوريين حيثما كانوا ممن يعانون تجديد جوازات سفرهم، لكن من هو "القنصل"، هو أبو إبراهيم، المعروف بالأوساط السورية في تركيا "لأنه يقوم بتسيير أمور السوريين عبر الأوراق المزورة، ولديه جميع أختام السفارة وكأنه القنصل السوري الرسمي، ويقول لــ" العربي الجديد":"أغلب الناس تعتقد بأننا فاسدون ولكن لا يعلمون بأن دورنا في كثير من الأحيان يقتصر على الوساطة أو السمسرة".
يوضح القنصل الأمر أكثر بقوله "أكثر من نصف الأوراق الرسمية لا نقوم بتزويرها وإنما نأتي بها من المؤسسات الحكومية في سوريا فهم الفاسدون، إذ نقوم بشرائها منهم وبيعها بهامش ربح "بسيط" للسوريين المعرقلة أوراقهم في مختلف الدول، مثلاً لاصقات تجديد جواز السفر السوري نجلبها من بعض فروع الهجرة والجوازات في سورية ونحن نتكفل بالأختام، حتى جوازات السفر كثيراً ما نستصدرها من دمشق بشكل نظامي لبعض الأشخاص الممنوعين من دخول سورية، فموظفو الهجرة هم الفاسدون ونحن نستغل فسادهم".
لكن تظل مشكلة الجوازات التي تعرف بـ "النظامية" أنها بلا قيد، ولذا لا تصلح للسفر إلى داخل سورية أو لبنان على وجه التحديد.
الائتلاف والجواز
أزمة جواز السفر السوري تزيد تعقيداً بالنسبة للمقيمين بالمناطق المحررة التي تقع تحت سيطرة المعارضة، حيث لم تستطع الأخيرة الممثلة سياسياً "بالائتلاف الوطني السوري المعارض"، تقديم أي حل يساهم في إنهاء هذه الأزمة بعد إعلان رئيس الائتلاف أحمد الجربا في وقت سابق، أن الائتلاف سيتمكن خلال شهرين من إصدار جوازات سفر للسوريين المحرومين من جوازات جديدة، أو يواجهون صعوبات في الحصول عليها، على أن يتم إلحاقه بالجواز الأصلي المنتهي الصلاحية، ولكن إلى الآن لم يتحقق شيء من ذلك على الأرض، وعن أسباب هذه العرقلة والبطء في خلق الحلول يتحدث عضو الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، زكريا السقال لــ"العربي الجديد" قائلا "ارتبطت أزمة تنقل السوريين، بأزمة خذلان العالم لثورتهم، في ظل اعتراف ناقص بالحاضنة الوطنية "الائتلاف"، إضافة للمواقف العربية المتصارعة حول الثورة السورية".
وأضاف "الائتلاف الوطني السوري لقوى الثورة بذل جهوداً كبيرة كي ينتزع من الجامعة العربية اعترافاً وتمثيلا يتمخض عنه شرعية الاعتراف بوثائق السفر وحرية التنقل، ولكنها وعود لم تثمر لغاية الآن كما أن الائتلاف يدرك جيداً هموم المواطن والمتاعب التي تواجهه ويبذل جهداً كبيراً لتذليل الكثير من الصعاب والمهام الملحّة".