لم تخرج الجولة الخامسة من مفاوضات جنيف السورية بأي نتائج ملموسة، مع محاولات المعارضة التوصل إلى حل عبر الانتقال السياسي الذي شددت عليه خلال لقاءاتها مع المبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا، مقابل تمسك وفد النظام بخطابه حول أولوية مكافحة الإرهاب، ورفض مناقشة الانتقال السياسي بشكل فعلي. ولكن على المستوى التقني، يبدو أن المعارضة نجحت في فرض سلة الانتقال السياسي كمحور ذي أولوية تدور باقي السلال الأخرى في فضائه، بينما بدا المبعوث الدولي وكأنه يحاول البناء من الأسفل، عندما حدد سلة الإعلان الدستوري كموضوع موحد للنقاش تم تناوله مرتين على مدار الأيام الثمانية.
ولخّص رئيس وفد المعارضة نصر الحريري، هذه الجولة بالقول إن المفاوضات قد بدأت من دون أن يصفها بالفشل أو النجاح، مجدداً التأكيد على أولوية المعارضة بالانتقال كمفتاح حقيقي للحل السياسي وإزاحة رئيس النظام بشار الأسد وأركان حكمه من السلطة.
وأعلن الحريري، في مؤتمر صحافي أمس، في ختام المفاوضات، "أننا قدّمنا رؤيتنا للانتقال السياسي الذي يضمن تحقيق الأمن والاستقرار في سورية بما يضمن مصالح الشعب السوري، وناقشنا الإجراءات الدستورية الناظمة للعملية الانتقالية بما يؤمن حقوق الشعب. وكذلك ناقشنا القضايا والإجراءات الانتخابية التي تمكّن هيئة الحكم الانتقالية من الوصول إلى انتخابات حرة ونزيهة في ختام المرحلة الانتقالية، إضافة إلى مناقشة الإجراءات والقضايا الأمنية التي تعزز هيئة الحكم الانتقالية وتجعلها قادرة على حفظ الأمن وخلق الاستقرار ومواجهة التحديات الأمنية ومحاربة التطرف والإرهاب أثناء المرحلة الانتقالية".
وعن سير المفاوضات، أوضح الحريري "أننا واصلنا نقاشاتنا مع دي ميستورا حول الانتقال السياسي وتشكيل هيئة الحكم الانتقالي، وسمعنا من فريق المبعوث الخاص أفكاره واقتراحاته وذلك من أجل تحقيق الهدف بتشكيل هيئة الحكم الانتقالي، ولا نريد أن نستمر بعملية مفاوضات مع الأمم المتحدة"، مضيفاً: "لا زلنا نبحث عن شريك يفكر في مصلحة سورية، ولكن لا نجد حتى اللحظة إلا طرفاً يمعن في استخدام الجريمة واستهداف المدنيين وقصف المستشفيات والمدارس والبنى التحتية من أجل تقويض أي فرصة للوصول إلى الحل السياسي".
وشدد على أولويات المعارضة وهي "الالتزام بالانتقال الحقيقي بما يتضمن رحيل مجرم الحرب بشار الأسد، لأن الانتقال هو المفتاح الحقيقي للحل السياسي"، معتبراً أن "محاربة الإرهاب هي عبر الانتقال السياسي وإزاحة بشار الأسد فوراً"، موضحاً أن "موقفنا واضح بأن إخراج إيران والمليشيات والقوى الأجنبية شرط أساس لتحقيق الانتقال السياسي ومواجهة الإرهاب وعودة الاستقرار". وحذر من أن "إفلات النظام من العقاب وعدم وجود إجراءات جدية لوضع حد لجرائمه هو ما أعطاه المدى لارتكاب المزيد من الجرائم وأعطاه المجال لمحاولة نسف العملية السياسية".
وعن توصيفه لهذه المفاوضات إذا نجحت أو فشلت، رد الحريري: "لا أستطيع أن أقول إن المفاوضات نجحت أو فشلت. نعرف أننا جئنا إلى مفاوضات شاقة مع طرف لا يريد الوصول لحل سياسي، ولكن أستطيع القول إن المفاوضات قد بدأت"، مشدداً على "أننا نريد إيقاف المعاناة عن شعبنا عبر وقف إطلاق النار وتطبيق البنود الإنسانية، والوصول لحل سياسي عادل من دون بشار الأسد وأركان نظامه".
كلام الحريري يؤكد تعامل وفد الهيئة العليا للمفاوضات على مدار الأيام الثمانية في جنيف بجدية بالغة مع المفاوضات، على الرغم من أن ما يجري لم يكن يشبه المفاوضات سواء المباشرة أو غير المباشرة، بل بدت الأمور كأن مختلف الأطراف السورية المشاركة، وبسبب عدم جدية وفد النظام، لا تفعل أي شيء سوى تقديم مرافعات للدفاع عن نفسها ضد تهم الإرهاب التي كان يوزعها النظام على العالم بالتساوي، أو للدفاع وشرح قضية الشعب السوري على كل المستويات الإنسانية والسياسية والحقوقية.
هذا الأمر اختصره أحد أعضاء الهيئة العليا للمفاوضات بالقول لـ"العربي الجديد": "لم نتوصل إلى أي نتائج ملموسة. كنا كمن يحاول التصفيق بيد واحدة"، مضيفاً: "كنا جديين للغاية، لكن النظام استمر بمحاولات التهرب من الخوض بجدية في النقاشات. استمرينا بقذف الكرات إلى ملعب النظام لنثبت للعالم أن الأسد لن يتجه إلى أي حل سياسي من دون ضغوطات دولية حقيقية".
وعلى الرغم من أن وفد النظام لم يعقد سوى مؤتمر صحافي واحد في اليوم الأول من المفاوضات، استهله رئيس الوفد بشار الجعفري بالهجوم على العالم بهستيرية، بذلت المعارضة جهدها لتكون على مستوى الحدث، واستمرت في إجراء مؤتمرات صحافية تعقب تقريباً كل لقاء، سواء مع دي ميستورا أو نائبه رمزي رمزي، لإطلاع الشعب السوري على ما تحاول القيام به.
وكما في الجولة السابقة، بدا الروس المعنيين الدوليين الأكبر بسير المفاوضات، وذوي التمثيل الأرفع الذي التقى مختلف الأطراف السورية، بحضور نائب وزير الخارجية الروسي، غينادي غاتيلوف. أما الأميركيون، فكانوا شبه غائبين، بل لم يكن حضور المبعوث الأميركي للشأن السوري، مايكل راتني، إلا نوعاً من رفع العتب، إذ وصل بعد أسبوع من انطلاق الجولة الحالية من مفاوضات جنيف. وكعادتهم كان تمثيل الأوروبيين على مستوى السفراء والمبعوثين الذين كانوا يعقدون اجتماعاتهم مع الهيئة، بقدرات ضعيفة للغاية في الضغط وتسريع عجلة المفاوضات.
أما على مستوى أعضاء ومستشاري وفد الهيئة العليا للمفاوضات، فقد بدوا حذرين للغاية هذه المرة في التعامل مع الإعلام. وقال أحد أعضاء وفد الهيئة العليا ممازحاً أحد الصحافيين: "لو إنكم (الإعلاميين) حلفتم على القرآن، لن نستطيع أن نأتمنكم". جاء ذلك بعد التسريبين الرئيسيين اللذين خرجا إلى الإعلام، وبينما بدا الأول مقصوداً حول تسريب ورقة "اللاورقة" التي سلّمها نائب المبعوث الأممي للهيئة العليا بشكل رسمي، فإن الثاني المتعلق بتسريب مقطع من محضر إحدى الجلسات بين الهيئة العليا والمبعوث الأممي، بدا كضربات من تحت الطاولة، وأثار غضباً كبيراً داخل الهيئة العليا للمفاوضات.
وعلمت "العربي الجديد" أن الأجواء توترت للغاية بعد التسريب الثاني، وصدرت أوامر لأعضاء الهيئة لمنع التسريبات، أو عدم الاسترخاء في التعامل مع الإعلاميين. وبينما بدا كبار المفاوضين وأعضاء الهيئة العليا حريصين للغاية في تعاملهم مع الإعلام، إلا أنهم استمروا في التجاوب مع الإعلاميين. مع ذلك ظهرت بعض التصرفات غير الاحترافية من بعض الإعلاميين، كقيام تلفزيون روداو الكردي، بنشر مقطع من حوار هامشي أجري مع منذر ماخوس، يؤكد فيه أن الاتحاد الديمقراطي عدو للهيئة العليا للمفاوضات بينما المجلس الوطني هو صديق للمجلس الوطني الكردي، رغم تأكيد المراسل والمصور أنه لا يتم تسجيل وتصوير ما يقوله، لأن الحديث ليس للنشر.
في غضون ذلك، برزت مؤشرات أزمة حول القضية الكردية في المفاوضات ووضع الأكراد في مستقبل سورية، وتفاقمت حتى علّق ممثلو المجلس الوطني الكردي المنضوي في الهيئة العليا، مشاركتهم في مفاوضات جنيف. وكان المجلس قد طالب بإرسال رسالة إلى المبعوث الدولي تتضمن الحديث عن أن المجلس الوطني الكردي هو الممثل الشرعي الوحيد للأكراد السوريين، ليتم تخفيف اللهجة في وقت لاحق بالحديث عن أنه الممثل للجانب الأوسع من الأكراد السوريين.
من جهته، أعلن المنسق العام لهيئة التنسيق حسن عبد العظيم، أن رفض الهيئة لمطالب المجلس الوطني الكردي يعود إلى سببين رئيسيين، "فمحاولة المجلس الوطني الكردي تدويل القضية الكردية أمر مرفوض للغاية، والرد جاء سريعاً من التركمان والآشوريين بالحديث عن رغبتهم بإرسال رسالة مشابهة لرسالة المجلس الوطني الكردي إن تمت الموافقة على رسالة الأخير، أما السبب الثاني فإننا لا نريد أن ننجر لنكون جزءاً من أي خلافات كردية - كردية".
في غضون ذلك، لم تخفِ مصادر في الهيئة العليا للمفاوضات في تصريحات لـ"العربي الجديد"، قلقها بشأن التوقيت وبأن يكون كل ما يفعله المجلس الوطني الكردي في إطار تحويل الهيئة العليا للمفاوضات إلى صندوق أسود لتبادل الرسائل بين كل من أربيل وأنقرة، بعد الخلافات التي اندلعت بينهما إثر رفع علم كردستان على مدينة كركوك المتنازع عليها، على الرغم من اعتراضات أبناء المدينة من التركمان والعرب.