تبدو مدينة جبلة الواقعة على مسافة 25 كيلومتراً جنوبي محافظة اللاذقية، كمدينة أشباح، بعد قتل قوات النظام العشرات من أبنائها، واعتقال المئات، وهرب آخرين من القبضة الأمنية والتجنيد الإجباري، وقد أضحى أي بيت عرضة للمداهمة والاعتقال والسرقة من قبل قوات "جيش الدفاع الوطني"، بعد تحول أحيائها الثائرة (السنية خاصة) إلى مدينة نساء وكهول ونازحين.
يقول مؤسس "لجان التنسيق المحلية" في مدينة جبلة أبو ملهم الجبلاوي لـ "العربي الجديد" إن "هناك 25 معتقلاً استشهدوا تحت التعذيب في سجون قوات الأسد موثقين بالاسم، وهناك الآن 131 معتقلاً سياسياً يقبعون في السجون، إضافة إلى 14 شخصاً خطفوا بهدف طلب الفدية"، مشيراً إلى أن "لجان التنسيق وثقت استشهاد 40 شخصاً من أبناء مدينة جبلة على يد الجيش والقوات الأمنية، هذا إذا ما استثنينا من قتل في معارك ريف اللاذقية بين قوات النظام والمعارضة المسلحة".
ثورة بلا سلاح
على الجانب الآخر، يضيف الجبلاوي أن "الثورة في جبلة مستمرة، وإلى الآن هناك مدنيون ونشطاء معارضون ينشرون لافتات بين الفترة والأخرى، ويوزعون مناشير ويوثقون الانتهاكات ويوزعون الإغاثات على الأهالي، رغم حملات العنف الممنهجة للنظام، مدللاً على ذلك بالحديث عما حصل خلال الانتخابات الرئاسية الشكلية التي جرت مطلع يونيو/حزيران العام الماضي، إذ "وزع 300 منشور في كافة أرجاء المدينة، وتحذير المؤيدين والمعارضين على حد سواء من مغبة انتخاب من قتل وشرد مئات الآلاف من السوريين ودمر معظم البلاد".
وعن مظاهر التسليح في المدينة، في ظل حديث وسائل الإعلام المقربة من النظام السوري عن اكتشاف مقرات للأسلحة والقبض على مسلحين وإرهابيين، يؤكد الناشط الإعلامي أنه "لا توجد أي مظاهر مسلحة في مدينة جبلة من قبل المعارضة، معللاً ذلك بكثرة انتشار الأمن والشبيحة، والحصار المفروض على المدينة من كافة الجهات، في حين تلفق اتهامات وهمية، كالحديث عن وجود مستودعات أسلحة وغيرها، وهذا يقدم سبباً كافياً لبقاء معظم قوات الأمن وقوات الدفاع الوطني وغيرها في المدينة، بدلاً من إرسالهم إلى جبهات القتال في دمشق وحلب وريفها، حيث يقتل العشرات منهم يومياً".
تهجير ديموغرافي
من يتتبع الخارطة الجغرافية في هذه المدينة المستريحة على البحر الأبيض المتوسط، يلحظ خناقاً طائفياً ملحوظاً، إذ تحيط القوات النظامية بالأحياء الثائرة ذات الغالبية السنية من جهاتها الثلاث وتقطع أوصالها بالحواجز العسكرية لجيش النظام، باستثناء الجهة الغربية الرابعة، والتي تطل على البحر المتوسط، حيث تقع الأحياء السنية في وسط المدينة وجنوبها، كحي العزة والتغرة والفيض وجب جويخة والجركس، في حين يتمركز سكان المناطق الموالية في أقصى الجهات الشمالية والشرقية والجنوبية، بالإضافة إلى قرى ريف جبلة، والتي تحوي سيطرة شبه مطلقة لأنصار النظام السوري.
بالإضافة إلى ذلك، تعتمد قوات النظام على المطار العسكري الأبرز لها في شمال المدينة المتمثل بمطار جبلة، ويحمل اسم "مطار باسل الأسد"، كان مطاراً مدنياً قبل الثورة السورية، وتحول مع انطلاقتها إلى مطار عسكري بامتياز، وأضحت الرحلات التي تقل الركاب المدنيين تكاد تكون شبه معدومة، وتقتصر على بضع رحلات شهرية، أما الرحلات العسكرية فهي التي تستحوذ على جداول الطيران.
ويقع المطار شمال مدينة اللاذقية بمسافة 18 كيلومتراً، ويطلق عليه أيضاً مطار حميميم، نسبة إلى القرية المجاورة. وقال أحد الشبان في مدينة جبلة ممن خرج من هذا المطار أخيراً إنه "يمكنك مشاهدة الطائرات المروحية التي تنتشر على أرض المطار الذي لا يبعد أكثر من كيلومتر واحد يسار الأوتوستراد المؤدي إلى مدينة طرطوس". وأكد أنه "ما من أحد يستطيع الدخول إلى المطار في ظل هذه الطروف، بسبب زيادة الرقابة الأمنية على مداخله والطرق المؤيدة إليه، بالإضافة إلى الكاميرات التي تنتشر على مداخله حتى يسهل مراقبة كافة الداخلين والخارجين منه".
كما لجأ النظام إلى نقل كافة الموظفين العاملين فيه من أبناء اللاذقية وجبلة، ممن يشك في ولائهم للنظام السوري، ويبدو ذلك جليا بانعدام أي تسريب من داخل المطار، ولا سيما في ما يخص النشاط العسكري. وأهم النقاط التي برز فيها المطار هو تسريب صورة وحيدة من داخله تظهر طائرة مدنية محملة بجثث قتلى قوات النظام من بقية المحافظات.
ويشير المصدر ذاته إلى أنه "توجد رغبة من قبل الأمن والشبيحة في إفراغ جبلة من الشباب المعارضين (وهم من غالبية مذهبية معروفة) تخوفاً من أي تطور مقبل محتمل، إذا ما اعتبرنا أن المدينة تعتبر معقلاً للموالين من أنصار النظام السوري، والتجمع الأكبر لضباط جيش النظام"، أيضاً ذات الغالبية المذهبية المعروفة.
وأضحت سياسة الخطف والسرقة والتهجير في الأحياء ذات الغالبية السنية، سياسة علنية من دون وجود أي جهاز للمحاسبة. وتعاني المدينة من بطش وتسلط مليشيات طائفية يقودها المدعو آيات بركات، مع تضاؤل دور المؤسسات الحكومية المعروفة كالشرطة، وأجهزة الأمن ذائعة الصيت، كالأمن العسكري والسياسي والمخابرات الجوية، والتي مارست دوراً كبيراً قبل الثورة وبعدها في مطاردة المدنيين واعتقالهم وتعذيبهم في السجون، ولا تزال.
ويعتبر جيش الدفاع الوطني في سورية واحداً من القوى الرديفة التي تأسست في أواخر عام 2012، لقمع الاحتجاجات الشعبية، بناء على اقتراح بتشكيل لجان من السكان المحليين للدفاع عن مناطقهم.
وتشير مصادر غير رسمية إلى أنّ عدد أفراد جيش الدفاع قد تجاوز 60 ألف عنصر من المتطوعين في كافة أنحاء سورية. ومن بين المتطوعين عدد من الكتائب النسائية التي تحمل اسم الفدائيات، ولها مهمات متعددة، مثل الوقوف على الحواجز، وإسعاف الجرحى أثناء العمليات القتالية.
وتركز القوات النظامية على حملات ممنهجة منظمة ومدروسة يتم خلالها اعتقال العشرات دفعة واحدة، بهدف دفع الشباب إلى الهجرة، إذ اعتقلت قبل نحو شهر أكثر من 50 شاباً في حي "الفيض" بعد اقتحامها الحي ومداهمة منازل المدنيين مدعومة بميليشيات "الدفاع الوطني".
يشار إلى أن مدينة جبلة تعد من أوائل المدن التي شاركت في التظاهرات الشعبية لإسقاط النظام السوري عام 2011، وأكثرها تعرضاً للقمع كونها تعدّ معقلاً لقوات النظام، والميليشيا والأنصار الموالين له. وفي إحصاءات العام 2009، كان عدد سكان المدينة 160 ألفاً، يصبح 250 ألفاً عند احتساب سكان الريف معها. وتاريخياً، كان سكان جبلة، بغالبيتهم العظمى، من السنة، قبل أن يبدأ التحول مع انتقال أعداد كبيرة من السوريين العلويين من الريف الجبلي إلى المدينة، لتصبح المدينة قبل الثورة مباشرةً، نصف سكانها تقريباً من السنة، ونصفهم الآخر من العلويين.