قليلة، بل نادرة هي الأعمال العربية التي تعرض في مهرجان أفينيون المسرحي الرسمي Festival D’Avignon، لأن أغلب الأعمال العربية، وخاصة من المسرح المغاربي وأحيانًا اللبناني تعرض عادة في مهرجان أفينيون الهامشيAvignon Off ، وقلّة هذه الأعمال تعكس بشكل من الأشكال تردّي حال المسرح العربي الراهن، وعدم صمود الكثير من إنجازاته لمعايير المسرح الفنية الجادّة التي تؤهل جمالياتها أي عمل لاستقدام المهرجان له. لكن هذا العام يشكل استثناءً محمودًا، فليس فيه عمل عربي واحد، كما حدث في مرات قليلة - كان آخرها في العام الماضي (2014) حينما وفد إلى المهرجان الرسمي عرض "طيور الفيوم" لفرقة الورشة المصرية بقيادة حسن الجريتلي، وعمل تونسي آخر قبله (2011) هو "يحيى يعيش" لفرقة فاميليا لفاضل الجعايبي وجليلة بكّار- وإنما كانت هناك إسهامات عربية في ثلاثة أعمال: هي "العشاء الأخير" للمصري أحمد العطار وفرقة "المعبد" المسرحية، و"مورسو: استقصاء مضاد" (Meursault, Contre-Enquête) عن نص للجزائري كامل داوود، وإن قدمتها فرقة مسرح الحرية في تولون Theatre Liberte de Toulon من إخراج فيليب برلينج، وعرض غنائي لبناني تونسي فرنسي مشترك هو "باربارا فيروزBarbara-Fairouz " للتونسية درصاف حمداني تمزج فيه عالمي الموسيقى الفرنسية وأغنيات باربرا وموسيقى الأخوين رحباني وأغنيات فيروز.
"مورسو" الجزائري على خشبة أفينيون
إذا بدأنا بأكثر هذه الأعمال أهمية واستثارة للتفكير، ألا وهو مسرحية "مورسو: استقصاء مضاد" المأخوذة عن رواية الكاتب الجزائري كامل داوود، سنجد أننا بإزاء عمل يمكن اعتباره من أعمال أدب ما بعد الاستعمار بالمعنى الحقيقي للمصطلح الذي صاغه إدوارد سعيد، وأصبح من بعده حقلًا معرفيًا بالغ الأهمية والخصوبة. لأن الرواية والمسرحية معًا من أعمال الرد بالكتابة Writing Back بالمعنى الحقيقي لهذا المصطلح، لأنها ترد وباللغة الفرنسية نفسها التي كتبت بها الرواية الأصلية على رواية "الغريب" الشهيرة لألبير كامو، ولكن من منظور المستعمَر هذه المرة، وليس من منظور المستعمِر الذي كتبت به رواية كامو. فمارسو الذي يشير إليه العنوان هو بطل رواية "الغريب" التي جسد فيها كامو مفهومه الفلسفي عن السأم/ العبث، وعن عبء الحياة وخفّتها غير المحتملة حسب تعبير ميلان كونديرا من بعده. فقد كانت "الغريب" رواية كامو الأولى التي نشرها عام 1942، ونشر معها في العام نفسه دراسته اللامعة عن "أسطورة سيزيف" التي أرسى فيها قواعد فلسفته التي يمتزج فيها العبث بالوجودية، هي التي وضعت اسمه بقوة على خريطة الأدب الفرنسي. وبلورت فكرته عن العبث والتمرد معًا. لكنها كانت في الوقت نفسه رواية فرنسية استعمارية بالمعنى الذي بلوره إدوارد سعيد في ما بعد في كتابه "الثقافة والإمبريالية"، بالرغم من أن كاتبها ولد في قرية جزائرية بالقرب من مدينة عنابة الحالية، لأب فرنسي، مات جنديًا في أحد معارك الحرب العالمية الأولى.
وكما كانت "الغريب" رواية كامو الأولى التي لفتت له الأنظار، فإن "مورسو: استقصاء مضاد" التي نشرت عام 2013 في الجزائر ثم أعيد طبعها عام 2014 في فرنسا، هي الأخرى رواية كامل داوود الأولى، التي لفتت له الأنظار أيضًا، بعدما فازت مجموعته القصصية الأولى بجائزة محمّد ديب في الجزائر. فقد ترجمت هذه الرواية حتى الآن، كما يقول برنامج المسرحية في المهرجان لأكثر من عشرين لغة. وقد اعتمدت رواية كامل داوود على الطبيعة المونولوجية التي تتسم بها رواية كامو، مما يسّر تحويلها إلى مسرحية، توشك أن تكون مسرحية من أعمال الممثل الواحد. وكما غيّبت رواية كامو "العربي"، ضحية سأم مورسو غير المحتمل، والذي اغتاله مورسو على شاطئ البحر من دون سبب ظاهر أو خفي، ولم تذكر عنه شيئًا سوى أنه "عربي" في استهانة بقدره وقيمته، غيبت رواية كامل داوود هي الأخرى مورسو من ساحتها كلية، بعد أن انطلقت منه في عنوانها، وإن عزز غيابه شعورنا بعبء جريمته المبهظة. لأن العمل كلّه مكرّس لتجسيد وقع فعله العبثي الغريب ذاك على الضحية، وكيف دمّر أسرتها الجزائرية. وتنطلق المسرحية من مشهد جزائري عربي خالص؛ فلسنا هنا أمام شاطئ البحر الأبيض المتوسط الذي تطلّ فرنسا على شاطئه المقابل، كما هو الحال في رواية ألبير كامو، ولكننا في باحة دار تقليدية عربية. دار تتسم بجماليات المعمار العربي التقليدي الذي ينفتح على الداخل ويدير ظهره للخارج مؤذنًا بمنطق العمل في التعامل مع موضوعه.
وفي باحة الدار الداخلية التي تتوسطها شجرة ليمون مثمرة، وينفتح عليها بابان؛ يدور العمل كلّه، الذي اضطلع ببطولته الممثل الجزائري المخضرم: أحمد بنعيسى في نوع من التجسيد الدرامي الذي يتسم بالتركيز والشاعرية معًا. وتبدأ المسرحية، بإيقاع صامت محسوب، حينما تدخل من أحد البابين الأم فتفرش سجادة الصلاة في الباحة المفتوحة على السماء، وتصلي في نوع من تأكيد هويتها الثقافية المغايرة منذ اللحظة الأولى. بينما تعرض لنا المسرحية على جدران الباحة خلفها بعض المشاهد الدالة لما كان يدور في الجزائر وقتها، أي زمن أحداث رواية ألبير كامو في مطالع أربعينيات القرن الماضي، وهي مشاهد يتصدرها بورتريه الإبن المقتول. وحينما يفد الابن الآخر، هارون، يمنح حكيه مع الأم، هذا العربي النكرة غير المسمى في رواية كامو اسمًا وحضورًا ملموسًا رغم أنه قد مات في شرخ الشباب ضحية لسأم بطله "الغريب" الذي يحقق غربته، كغربة المشروع الاستعماري نفسه، على حساب الأبرياء من أبناء المستعمرات. فنعرف كلّ شيء عنه، بدءًا من اسمه الكامل: موسى ولد العساسي ، مرورًا بواقعه وما كان يتمتع به من مواهب في العزف الشّجي على الناي، وما كان يحلم به من مشاريع أجهضها قتله العبثي، وصولًا إلى أمه التي فقدت بعد صدمة موته القدرة على الكلام، أو الرغبة فيه. ولم يعد بإمكانها غير البكاء أو الصراخ والعويل أو التعديد/ الغناء تعبيرًا عما تشعر به من قهر وغيظ كظيم.
أما الأخ هارون فهو الذي ينهض بعبء الحديث طوال المسرحية. ونلاحظ من البداية أن المسرحية تدخل في تناصّ مضمر مع الأسطورة الدينية حينما تختار اسم موسى وأخيه هارون اسمين لبطليها، وتجعل اسم الأخ الذي قُتل هو موسى، وليس هارون. وكأن المستعمِر، بوعي أو بدون وعي، يقتل أصحاب الرسالات في المستعمرات. بل وتجعل من هارون نموذجًا لما بلورته كتابات فرانز فانون من الأدواء النفسية والجسدية معًا التي يعاني منها المستعمَر. فقد دمّر قتل موسى الذي جلب عبثية العنف والقهر الاستعماري إلى قلب تلك الأسرة الجزائرية حياة أخيه هارون، ليس فقط لأنه سعى إلى الانتقام لأخيه، وانتهى به الأمر إلى قضاء قسم لا بأس به من شبابه في سجون المستعمِر، ولكن أيضًا لأنه لم يعد قادرًا، وقد تسلل عبء الاستعمار وأدوائه إلى قلب حياته الأسرية والنفسية، على ممارسة حياة عادية بعد الإفراج عنه. بل يكشف عن أن عجزه عن ممارسة حياة عادية سبق تجربة السجن، ولكنه أعقب قتل أخيه؛ لأنه حينما تخلّقت بدايات علاقة حميمية بينه وبين الصحفية التي جاءت للتحقيق في مقتل أخيه، لم يستطع الاستمرار فيها أو تحقيقها. حتى حينما أقلبت عليه مغدقة مشاعرها، وكأنها تريد أن تكفّر عن خطئية مورسو في حقّ هذه الأسرة البريئة، شعر معها بالعنّة الجسدية والروحية معًا.
وقد مكّن حضور الأم على المسرح، وقد فقدت لغة الكلام، فلم تدخل في أي حوار منطوق مع ابنها هارون الذي وقع عليه وحده عبء تجسيد كل ما يدور في الرواية من رؤى وأفكار، العمل من التخلص من العدو الأول لمسرح الممثل الواحد، وهو الرتابة والملل الذي يصيب المشاهدين لاستمرار العمل على وتيرة واحدة. فقد منح حضورها العمل حواريته الدرامية الفريدة، التي عززتها بلغات مسموعة أخرى غير لغة الكلام، وبنوع من التواصل الحميمي الذي جسّد التفاهم المشترك بين الأم وابنها، وانطلاقهما من موقف واحد، هو مرارة الفقد. كما أتاح لها أن تكون في مستوى من مستويات المعنى في العمل استعارة حيّة للجزائر المكلومة.
لقد كتب كامل داوود عملًا دراميًا وحواريًا بحق، يدعونا إلى قراءة كامو من منظور جديد وبعيون جديدة. لأنه لا يعارض النص الروائي فحسب، ويرد بالكتابة على المحذوف والمسكوت عنه عمدًا فيه فحسب، ولكنه يحاور فيه أيضًا فكر كامو عن العبث وأسطورة سيزيف؛ وإن كان العبث هنا ليس وجوديًا ولكنه اجتماعي سياسي يكشف لنا عن عبثية ما جرى لأحلام الاستقلال الجزائرية، وخاصّة بعد تنامي ضيق الأفق وتشدد الإسلامجية. فنحن بإزاء عمل يطرح إشكالية التعامل مع نص كامو بعد سبعين عامًا من كتابته، جرت فيها مياه كثيرة تحت الجسر: جسر الاستعمار، وجسر الاستقلال معًا. لأنه في مستوى من مستويات المعنى فيه رحلة في مكونات الوعي الاستعماري الفرنسي علّه يحدق في ماضيه القريب، والوعي التحرري الجزائري وهو يتعامل مع إشكاليات حاضره المعقد بعد تخثر أحلال التحرير بعد نصف قرن من تحقق الاستقلال.
"مورسو" الجزائري على خشبة أفينيون
إذا بدأنا بأكثر هذه الأعمال أهمية واستثارة للتفكير، ألا وهو مسرحية "مورسو: استقصاء مضاد" المأخوذة عن رواية الكاتب الجزائري كامل داوود، سنجد أننا بإزاء عمل يمكن اعتباره من أعمال أدب ما بعد الاستعمار بالمعنى الحقيقي للمصطلح الذي صاغه إدوارد سعيد، وأصبح من بعده حقلًا معرفيًا بالغ الأهمية والخصوبة. لأن الرواية والمسرحية معًا من أعمال الرد بالكتابة Writing Back بالمعنى الحقيقي لهذا المصطلح، لأنها ترد وباللغة الفرنسية نفسها التي كتبت بها الرواية الأصلية على رواية "الغريب" الشهيرة لألبير كامو، ولكن من منظور المستعمَر هذه المرة، وليس من منظور المستعمِر الذي كتبت به رواية كامو. فمارسو الذي يشير إليه العنوان هو بطل رواية "الغريب" التي جسد فيها كامو مفهومه الفلسفي عن السأم/ العبث، وعن عبء الحياة وخفّتها غير المحتملة حسب تعبير ميلان كونديرا من بعده. فقد كانت "الغريب" رواية كامو الأولى التي نشرها عام 1942، ونشر معها في العام نفسه دراسته اللامعة عن "أسطورة سيزيف" التي أرسى فيها قواعد فلسفته التي يمتزج فيها العبث بالوجودية، هي التي وضعت اسمه بقوة على خريطة الأدب الفرنسي. وبلورت فكرته عن العبث والتمرد معًا. لكنها كانت في الوقت نفسه رواية فرنسية استعمارية بالمعنى الذي بلوره إدوارد سعيد في ما بعد في كتابه "الثقافة والإمبريالية"، بالرغم من أن كاتبها ولد في قرية جزائرية بالقرب من مدينة عنابة الحالية، لأب فرنسي، مات جنديًا في أحد معارك الحرب العالمية الأولى.
وكما كانت "الغريب" رواية كامو الأولى التي لفتت له الأنظار، فإن "مورسو: استقصاء مضاد" التي نشرت عام 2013 في الجزائر ثم أعيد طبعها عام 2014 في فرنسا، هي الأخرى رواية كامل داوود الأولى، التي لفتت له الأنظار أيضًا، بعدما فازت مجموعته القصصية الأولى بجائزة محمّد ديب في الجزائر. فقد ترجمت هذه الرواية حتى الآن، كما يقول برنامج المسرحية في المهرجان لأكثر من عشرين لغة. وقد اعتمدت رواية كامل داوود على الطبيعة المونولوجية التي تتسم بها رواية كامو، مما يسّر تحويلها إلى مسرحية، توشك أن تكون مسرحية من أعمال الممثل الواحد. وكما غيّبت رواية كامو "العربي"، ضحية سأم مورسو غير المحتمل، والذي اغتاله مورسو على شاطئ البحر من دون سبب ظاهر أو خفي، ولم تذكر عنه شيئًا سوى أنه "عربي" في استهانة بقدره وقيمته، غيبت رواية كامل داوود هي الأخرى مورسو من ساحتها كلية، بعد أن انطلقت منه في عنوانها، وإن عزز غيابه شعورنا بعبء جريمته المبهظة. لأن العمل كلّه مكرّس لتجسيد وقع فعله العبثي الغريب ذاك على الضحية، وكيف دمّر أسرتها الجزائرية. وتنطلق المسرحية من مشهد جزائري عربي خالص؛ فلسنا هنا أمام شاطئ البحر الأبيض المتوسط الذي تطلّ فرنسا على شاطئه المقابل، كما هو الحال في رواية ألبير كامو، ولكننا في باحة دار تقليدية عربية. دار تتسم بجماليات المعمار العربي التقليدي الذي ينفتح على الداخل ويدير ظهره للخارج مؤذنًا بمنطق العمل في التعامل مع موضوعه.
وفي باحة الدار الداخلية التي تتوسطها شجرة ليمون مثمرة، وينفتح عليها بابان؛ يدور العمل كلّه، الذي اضطلع ببطولته الممثل الجزائري المخضرم: أحمد بنعيسى في نوع من التجسيد الدرامي الذي يتسم بالتركيز والشاعرية معًا. وتبدأ المسرحية، بإيقاع صامت محسوب، حينما تدخل من أحد البابين الأم فتفرش سجادة الصلاة في الباحة المفتوحة على السماء، وتصلي في نوع من تأكيد هويتها الثقافية المغايرة منذ اللحظة الأولى. بينما تعرض لنا المسرحية على جدران الباحة خلفها بعض المشاهد الدالة لما كان يدور في الجزائر وقتها، أي زمن أحداث رواية ألبير كامو في مطالع أربعينيات القرن الماضي، وهي مشاهد يتصدرها بورتريه الإبن المقتول. وحينما يفد الابن الآخر، هارون، يمنح حكيه مع الأم، هذا العربي النكرة غير المسمى في رواية كامو اسمًا وحضورًا ملموسًا رغم أنه قد مات في شرخ الشباب ضحية لسأم بطله "الغريب" الذي يحقق غربته، كغربة المشروع الاستعماري نفسه، على حساب الأبرياء من أبناء المستعمرات. فنعرف كلّ شيء عنه، بدءًا من اسمه الكامل: موسى ولد العساسي ، مرورًا بواقعه وما كان يتمتع به من مواهب في العزف الشّجي على الناي، وما كان يحلم به من مشاريع أجهضها قتله العبثي، وصولًا إلى أمه التي فقدت بعد صدمة موته القدرة على الكلام، أو الرغبة فيه. ولم يعد بإمكانها غير البكاء أو الصراخ والعويل أو التعديد/ الغناء تعبيرًا عما تشعر به من قهر وغيظ كظيم.
أما الأخ هارون فهو الذي ينهض بعبء الحديث طوال المسرحية. ونلاحظ من البداية أن المسرحية تدخل في تناصّ مضمر مع الأسطورة الدينية حينما تختار اسم موسى وأخيه هارون اسمين لبطليها، وتجعل اسم الأخ الذي قُتل هو موسى، وليس هارون. وكأن المستعمِر، بوعي أو بدون وعي، يقتل أصحاب الرسالات في المستعمرات. بل وتجعل من هارون نموذجًا لما بلورته كتابات فرانز فانون من الأدواء النفسية والجسدية معًا التي يعاني منها المستعمَر. فقد دمّر قتل موسى الذي جلب عبثية العنف والقهر الاستعماري إلى قلب تلك الأسرة الجزائرية حياة أخيه هارون، ليس فقط لأنه سعى إلى الانتقام لأخيه، وانتهى به الأمر إلى قضاء قسم لا بأس به من شبابه في سجون المستعمِر، ولكن أيضًا لأنه لم يعد قادرًا، وقد تسلل عبء الاستعمار وأدوائه إلى قلب حياته الأسرية والنفسية، على ممارسة حياة عادية بعد الإفراج عنه. بل يكشف عن أن عجزه عن ممارسة حياة عادية سبق تجربة السجن، ولكنه أعقب قتل أخيه؛ لأنه حينما تخلّقت بدايات علاقة حميمية بينه وبين الصحفية التي جاءت للتحقيق في مقتل أخيه، لم يستطع الاستمرار فيها أو تحقيقها. حتى حينما أقلبت عليه مغدقة مشاعرها، وكأنها تريد أن تكفّر عن خطئية مورسو في حقّ هذه الأسرة البريئة، شعر معها بالعنّة الجسدية والروحية معًا.
وقد مكّن حضور الأم على المسرح، وقد فقدت لغة الكلام، فلم تدخل في أي حوار منطوق مع ابنها هارون الذي وقع عليه وحده عبء تجسيد كل ما يدور في الرواية من رؤى وأفكار، العمل من التخلص من العدو الأول لمسرح الممثل الواحد، وهو الرتابة والملل الذي يصيب المشاهدين لاستمرار العمل على وتيرة واحدة. فقد منح حضورها العمل حواريته الدرامية الفريدة، التي عززتها بلغات مسموعة أخرى غير لغة الكلام، وبنوع من التواصل الحميمي الذي جسّد التفاهم المشترك بين الأم وابنها، وانطلاقهما من موقف واحد، هو مرارة الفقد. كما أتاح لها أن تكون في مستوى من مستويات المعنى في العمل استعارة حيّة للجزائر المكلومة.
لقد كتب كامل داوود عملًا دراميًا وحواريًا بحق، يدعونا إلى قراءة كامو من منظور جديد وبعيون جديدة. لأنه لا يعارض النص الروائي فحسب، ويرد بالكتابة على المحذوف والمسكوت عنه عمدًا فيه فحسب، ولكنه يحاور فيه أيضًا فكر كامو عن العبث وأسطورة سيزيف؛ وإن كان العبث هنا ليس وجوديًا ولكنه اجتماعي سياسي يكشف لنا عن عبثية ما جرى لأحلام الاستقلال الجزائرية، وخاصّة بعد تنامي ضيق الأفق وتشدد الإسلامجية. فنحن بإزاء عمل يطرح إشكالية التعامل مع نص كامو بعد سبعين عامًا من كتابته، جرت فيها مياه كثيرة تحت الجسر: جسر الاستعمار، وجسر الاستقلال معًا. لأنه في مستوى من مستويات المعنى فيه رحلة في مكونات الوعي الاستعماري الفرنسي علّه يحدق في ماضيه القريب، والوعي التحرري الجزائري وهو يتعامل مع إشكاليات حاضره المعقد بعد تخثر أحلال التحرير بعد نصف قرن من تحقق الاستقلال.