04 نوفمبر 2024
تونس وكأس العالم.. أفراح وسياسة وأتراح
ترشّح المنتخب التونسي، الأسبوع الماضي، على حساب شقيقه المنتخب الليبي، للمنافسة على كأس العالم، في مباريات الصيف المقبل في روسيا. وكانت المقابلة الكروية فاقدة للرهان بالنسبة لأشقائنا الليبيين، في حين كان يكفي التعادل المنتخب التونسي حتى يترشح، ومع ذلك كانت مباراة أعصاب، كما يقول المختصون في التعليق الرياضي، فلقد استمات الفريق الليبي في الدفاع عن شرف "اللعبة" وأخلاقياتها، وهدّد في أكثر من مناسبة مرمى خصمه. انحبست الأنفاس طويلا، حتى أنهت صفارة الحكم المباراة الصعبة فغدا ترشّح تونس حقيقة.
انطلقت الأفراح في تونس. وللأسف، كانت تونس أخرى على موعد مع الحزن، إذ تصادف هذا الترشح مع فيضانات ضربت ولايات الجنوب الشرقي للبلاد (محافظات قابس ومدنين وتطاوين). ونجمت عنها خسائر مادية فادحة، وراح ضحيتها مواطنون، بينهم مسؤولون محليون جرفتهم المياه، وهم بصدد القيام بأعمال الإسعاف والنجدة.
حضر رئيس الجمهورية، الباجي قائد السبسي، الشوط الثاني من المقابلة، ودخل الملعب في فترة ما بين الشوطين، وهي عادةٌ دأب عليها الرئيس الراحل، الحبيب بورقيبة، في محاولة لاستعادة روحه، وهو الذي يعتبره مثله الأعلى. كما حضر زعيم حركة النهضة، الشيخ راشد الغنوشي، في رغبة واضحة منه لتأكيد حرص الحركة على مصالحة الرياضة وكرة القدم، وكانت متهمة بمعاداتها باعتبارها ملهاة وتخديرا، خصوصا وأن الغنوشي، كان قد بادر سابقا إلى تكريم رياضيين تونسيين تألقوا في مسابقات دولية. ومع ذلك لم تنج "النهضة" من انتقادات حادّة نالتها، على اعتبار ذلك توظيفا، غير أنها لا تبالي بما يقال، وظلت ماضية في تطوير علاقاتها العامة. كما جاء ذلك الحضور مع رئيس الجمهورية في هذا التوقيت لتأكيد تمسّك الرجلين بالمضي في "توافق الشيخيْن"، وهما يعلمان أن التحالف الحكومي يتعرّض أكثر من أي وقت مضى إلى أزمة عنيفة بعد خروج الحزب الجمهوري منه، وتهديد حزب آفاق تونس بالانسحاب.
علينا ألا ننسى الحضور المكثف لقيادات الأحزاب الحاكمة والمعارضة، فالفرجة، ومن موقع
متقدم، تغدو في مثل هذه المناسبات فرصةً لتأكيد وطنيةٍ، لا غبار عليها، وإن كانت "وطنية كروية". شعائر الخشوع للنشيد الوطني والتحمّس بجرعة "مسموح" بها هي من أشكال "الوقوف لتونس"، كما يكرّر رئيس الحكومة، في معظم تصريحاته، وإن كان أول من نطق بالعبارة الشهيد شكري بلعيد.
تمنح مباريات كرة القدم، وخصوصا التي يلعبها المنتخب الوطني، الساسة فرصة ثمينة لتأكيد انتماءٍ إلى تونس عابر للجهويات والأحزاب، لا يخلو من شعبيةٍ تضمنها شعبية كرة القدم ذاتها. يغادر زعماء السياسة ونجوم الفن أبراجهم وحصونهم النخبوية وعوالمهم المغلقة، وطوال 90 دقيقة فقط، ومن منصّاتٍ معزولة، ليلتحموا بجماهير الكرة، خصوصا في ظل النقل المباشر والإمكانات الهائلة التي تتيحها الصورة الرقمية المبثوثة في مختلف تقنيات التواصل.
تزامن الترشح مع فيضاناتٍ ألحقت أضرارا عامة في محافظات الجنوب التونسي، كشفت عن ضعف البنية التحتية، وانشغال الدولة عن نصف ترابها الجنوبي، في ظل تنامي مظلوميةٍ جهويةٍ، نرجو ألا تترسخ. وقد بدأ بعضهم في توظيفها على نحو مضر. ومع ذلك، لا أحد ينكر أن أوساطا مهمة من الرأي العام التونسي لم تستسغ الاحتفالات المبالغ فيها في وسائل الإعلام العمومي، فرأت فيها عدم احترام لمشاعر أهالي المناطق المنكوبة في تلك الجهة، حيث أدرجت التلفزة الوطنية خبر وفاة المواطنين، وما حل بمنطقة الجنوب، في نشرتها الرئيسية المسائية في المرتبة الثالثة، وواصلت تغطيتها حدث الترشح التي تجاوزت مدتها الست ساعات، من دون الإشارة الى ما كان يحدث هناك. سعت التلفزة، بخفةٍ غير محسوبة، أن تمنح مشروعية وشرعية لما فعلت من خلال استجوابٍ مبكر لرئيس الجمهورية بعد ثوان من الترشح، ولكنه فطن إلى تلك المطبات والعواقب السيئة، فاستهل تصريحه بتوجيه تعازيه إلى العائلات المنكوبة.
تقاسم الجميع، وخصوصا السياسيين الذين حضروا، مغانم الانتصار كل لحسابه، وعلى طريقته، ولكن رئيس الحكومة، يوسف الشاهد، حرمهم تلك الليلة من أن يقاسمهم فيء الانتصار. كان في مصر في نطاق اجتماع أشغال الدورة 16 للجنة العليا التونسية المصرية المشتركة، لكن الكوارث تمنح ما لم تمنحه الانتصارات أحيانا، إذ قدمت له فرصة للتدارك، وتعزيز شعبيته أيضا، فقرّر الرجل في أثناء عودته ليلا من القاهرة أن يتجه على متن الطائرة مباشرة إلى مدينة قابس المنكوبة، ويبدي نبلا كبيرا للوقوف على حجم الكارثة ومواساة الأهالي.
بين شاشات اختتام أيام قرطاج السينمائية وأضوائه، واحتفالات الترشح لكأس العالم، ومعاناة
أهالي الجنوب من فيضانات جارفة، تشتتت اهتمامات التونسيين، وتبعثرت أحاسيسهم، لكنهم كانوا على قلب رجل واحد، تموجت عليه مشاعر متباينة، فكانت خليطا ومزيجا مربكا من حالات شتى. كان مساء 12 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري (الأحد) استثنائيا بكل المقاييس. ربما كان التونسيون يحتاجون إلى هذا الحدث، حتى يغادروا مناطق الحزن والحيرة والخوف التي طالت. يقول التونسيون إنهم مند الثورة لم يفرحوا، بل ظلت أفراحهم بالثورة تؤجل دوما، بعد العمليات الإرهابية التي خطفت منهم بهجتهم، حين تتالت الاغتيالات والأزمات الاجتماعية الحادة التي خنقتهم، وزادت في منسوب الخوف والحيرة والإحباط لديهم.
تمنح كرة القدم عشاقها ومحبيها وجمهورها فرصة سانحة لتسلق مراتب "البطولة"، بما فيها من شعور عارم بالتفوق والانتصار وتحقيق معجزات عجز عنها الأولون، كما تمنح فرصة نادرة أيضا للشعوب بتعميق الإحساس بالانتماء المشترك، فلا أحد يستطيع إنكار "المشترك الوطني الكروي" في مجتمع منقسم ومتشظٍّ بين معارضة ونخب حاكمة، بين فئاتٍ وجهاتٍ متباينة، بين شباب منتفض وسلطة منغلقة، بين هؤلاء وهؤلاء جفوة وفجوة يجسّرهما هدف يسكن الشبكة.
منح الترشّح لكأس العالم للتونسيين أيضا فرصة للنسيان، إذ يرغب هؤلاء في تخليد حدث الترشح هذا على شاكلة معجزات وأساطير مؤبدة، تمحو ما قبلها وما بعدها، فبعد ما يناهز الأربعين سنة، ما زالت ذاكرة التونسيين تحتفظ بأول ترشح لفريقهم الوطني لكأس العالم في الأرجنتين سنة 1978. سيعيش التونسيون الأشهر المقبلة على شوق كبير وأمنيات وأوهام لذيذة، وسيتحملون سعر الخضروات التي تلتهم أصابعهم، وهي مغلولة في جيوب مثقوبة أصلا. ومع ذلك، سيقولون: ما أحلى الكرة، ما أروع المنتخب. كانت الأرجنتين تحتاج الفوز بكأس العالم، لتذوق طعم الفرح وهي بقبضة حكم عسكري دام. أما نحن فنحتاج للترشح، لننسى قليلا، وننام قليلا ونحلم كثيرا، "فالثورة أهدتنا سماء كاملة من الحرية".
انطلقت الأفراح في تونس. وللأسف، كانت تونس أخرى على موعد مع الحزن، إذ تصادف هذا الترشح مع فيضانات ضربت ولايات الجنوب الشرقي للبلاد (محافظات قابس ومدنين وتطاوين). ونجمت عنها خسائر مادية فادحة، وراح ضحيتها مواطنون، بينهم مسؤولون محليون جرفتهم المياه، وهم بصدد القيام بأعمال الإسعاف والنجدة.
حضر رئيس الجمهورية، الباجي قائد السبسي، الشوط الثاني من المقابلة، ودخل الملعب في فترة ما بين الشوطين، وهي عادةٌ دأب عليها الرئيس الراحل، الحبيب بورقيبة، في محاولة لاستعادة روحه، وهو الذي يعتبره مثله الأعلى. كما حضر زعيم حركة النهضة، الشيخ راشد الغنوشي، في رغبة واضحة منه لتأكيد حرص الحركة على مصالحة الرياضة وكرة القدم، وكانت متهمة بمعاداتها باعتبارها ملهاة وتخديرا، خصوصا وأن الغنوشي، كان قد بادر سابقا إلى تكريم رياضيين تونسيين تألقوا في مسابقات دولية. ومع ذلك لم تنج "النهضة" من انتقادات حادّة نالتها، على اعتبار ذلك توظيفا، غير أنها لا تبالي بما يقال، وظلت ماضية في تطوير علاقاتها العامة. كما جاء ذلك الحضور مع رئيس الجمهورية في هذا التوقيت لتأكيد تمسّك الرجلين بالمضي في "توافق الشيخيْن"، وهما يعلمان أن التحالف الحكومي يتعرّض أكثر من أي وقت مضى إلى أزمة عنيفة بعد خروج الحزب الجمهوري منه، وتهديد حزب آفاق تونس بالانسحاب.
علينا ألا ننسى الحضور المكثف لقيادات الأحزاب الحاكمة والمعارضة، فالفرجة، ومن موقع
تمنح مباريات كرة القدم، وخصوصا التي يلعبها المنتخب الوطني، الساسة فرصة ثمينة لتأكيد انتماءٍ إلى تونس عابر للجهويات والأحزاب، لا يخلو من شعبيةٍ تضمنها شعبية كرة القدم ذاتها. يغادر زعماء السياسة ونجوم الفن أبراجهم وحصونهم النخبوية وعوالمهم المغلقة، وطوال 90 دقيقة فقط، ومن منصّاتٍ معزولة، ليلتحموا بجماهير الكرة، خصوصا في ظل النقل المباشر والإمكانات الهائلة التي تتيحها الصورة الرقمية المبثوثة في مختلف تقنيات التواصل.
تزامن الترشح مع فيضاناتٍ ألحقت أضرارا عامة في محافظات الجنوب التونسي، كشفت عن ضعف البنية التحتية، وانشغال الدولة عن نصف ترابها الجنوبي، في ظل تنامي مظلوميةٍ جهويةٍ، نرجو ألا تترسخ. وقد بدأ بعضهم في توظيفها على نحو مضر. ومع ذلك، لا أحد ينكر أن أوساطا مهمة من الرأي العام التونسي لم تستسغ الاحتفالات المبالغ فيها في وسائل الإعلام العمومي، فرأت فيها عدم احترام لمشاعر أهالي المناطق المنكوبة في تلك الجهة، حيث أدرجت التلفزة الوطنية خبر وفاة المواطنين، وما حل بمنطقة الجنوب، في نشرتها الرئيسية المسائية في المرتبة الثالثة، وواصلت تغطيتها حدث الترشح التي تجاوزت مدتها الست ساعات، من دون الإشارة الى ما كان يحدث هناك. سعت التلفزة، بخفةٍ غير محسوبة، أن تمنح مشروعية وشرعية لما فعلت من خلال استجوابٍ مبكر لرئيس الجمهورية بعد ثوان من الترشح، ولكنه فطن إلى تلك المطبات والعواقب السيئة، فاستهل تصريحه بتوجيه تعازيه إلى العائلات المنكوبة.
تقاسم الجميع، وخصوصا السياسيين الذين حضروا، مغانم الانتصار كل لحسابه، وعلى طريقته، ولكن رئيس الحكومة، يوسف الشاهد، حرمهم تلك الليلة من أن يقاسمهم فيء الانتصار. كان في مصر في نطاق اجتماع أشغال الدورة 16 للجنة العليا التونسية المصرية المشتركة، لكن الكوارث تمنح ما لم تمنحه الانتصارات أحيانا، إذ قدمت له فرصة للتدارك، وتعزيز شعبيته أيضا، فقرّر الرجل في أثناء عودته ليلا من القاهرة أن يتجه على متن الطائرة مباشرة إلى مدينة قابس المنكوبة، ويبدي نبلا كبيرا للوقوف على حجم الكارثة ومواساة الأهالي.
بين شاشات اختتام أيام قرطاج السينمائية وأضوائه، واحتفالات الترشح لكأس العالم، ومعاناة
تمنح كرة القدم عشاقها ومحبيها وجمهورها فرصة سانحة لتسلق مراتب "البطولة"، بما فيها من شعور عارم بالتفوق والانتصار وتحقيق معجزات عجز عنها الأولون، كما تمنح فرصة نادرة أيضا للشعوب بتعميق الإحساس بالانتماء المشترك، فلا أحد يستطيع إنكار "المشترك الوطني الكروي" في مجتمع منقسم ومتشظٍّ بين معارضة ونخب حاكمة، بين فئاتٍ وجهاتٍ متباينة، بين شباب منتفض وسلطة منغلقة، بين هؤلاء وهؤلاء جفوة وفجوة يجسّرهما هدف يسكن الشبكة.
منح الترشّح لكأس العالم للتونسيين أيضا فرصة للنسيان، إذ يرغب هؤلاء في تخليد حدث الترشح هذا على شاكلة معجزات وأساطير مؤبدة، تمحو ما قبلها وما بعدها، فبعد ما يناهز الأربعين سنة، ما زالت ذاكرة التونسيين تحتفظ بأول ترشح لفريقهم الوطني لكأس العالم في الأرجنتين سنة 1978. سيعيش التونسيون الأشهر المقبلة على شوق كبير وأمنيات وأوهام لذيذة، وسيتحملون سعر الخضروات التي تلتهم أصابعهم، وهي مغلولة في جيوب مثقوبة أصلا. ومع ذلك، سيقولون: ما أحلى الكرة، ما أروع المنتخب. كانت الأرجنتين تحتاج الفوز بكأس العالم، لتذوق طعم الفرح وهي بقبضة حكم عسكري دام. أما نحن فنحتاج للترشح، لننسى قليلا، وننام قليلا ونحلم كثيرا، "فالثورة أهدتنا سماء كاملة من الحرية".