تونس.. رمال "النهضة" وأحراش "النداء"

10 نوفمبر 2014

متظاهر تونسي متوجه إلى القصبة (26فبراير/2011/Getty)

+ الخط -

يقول الجغرافي الفرنسي ومؤسس علم اجتماع الانتخابات في فرنسا، أندري سيفريد، "يصوت حجر الغرانيت لليمين، ويصوت حجر الكلس لليسار". في اختزالٍ، لا يخلو من شاعرية كسار الحصى، يشير مؤسس علم الاجتماع الانتخابي إلى منطق التصويت الذي حكم عقوداً طويلة جغرافية الانتخابات الفرنسية. حينما نقرأ جل ما كتب الرجل، وأساسا فيما يسميه الإيكولوجيا الانتخابية، لن يكون جهده المضني سوى جمع مكثف لغابة من المحددات المتشابكة والمعقدة، والتي لا تخلو، على الرغم من الملاحقة المضنية لما يعتبره مؤثرات في السلوك الانتخابي للفرنسيين، على الرغم من إقراره، أكثر من مرة، باصطدام جهده بحالات تستعصي عل التصنيف. مهمة العلم في كل حقول المعرفة أن يبني أنساقه، وأن يلملم المشتت في بنى، وتلك هي مهمة الرياضيات بامتياز التي استفادت منها المعارف الملتفة حول موضوع الانتخابات أيضاً. 

يسوقنا فعل التصويت، ونحن نروم فهمه، إلى احتمالين، إما خضوعه إلى أسباب محددة، هي من قبيل الحتميات على غرار الجنس والعرق واللون والسن والطبيعة (شمال، جنوب، جبال، صحراء، غابة، شواطئ، مناخ... ). آنذاك، لن نكون أمام فعل غير متوقع تتشهاه مكاتب سبر الآراء، بل سنستنسخ النتائج الانتخابية، ما دامت تلك العناصر ثابتة، والاحتمال الثاني هو التخلي عن منطق الحتميات، وخصوصا الطبيعية منها التي تؤبد السلوك الانتخابي للمواطنين، خصوصاً وأن النتائج الانتخابية في الديمقراطيات الحديثة متغيرة، فلا طرف يحجز مقاعد أبدية في المجالس التشريعية أو غيرها من المجالس المنتخبة. يدفعنا التخلي هذا إلى البحث عن عوامل اجتماعية وسياسية، بالأساس هي ضرورة متقلبة. رأينا، في بلدان عديدة، أن توجهات الناخبين تتغير بشكل كلي بين انتخابات تشريعية وأخرى محلية، وفي مساحات زمنية قصيرة فينهزم من كان منتصراً، وينتصر من كان منهزماً. السلوك الانتخابي متحول، يتبدل بمقتضى سياقات عديدة، لا دخل للمحددات الطبيعية فيها.  عوامل ذلك كثيرة، فمنها ما هو راجع إلى صورة الأحزاب، كما يرسمها أداؤها السياسي، في الحكم أو المعارضة، ومنها ما هو راجع إلى قدرة الأحزاب على التعبئة الانتخابية والإقناع بالبرامج التي تقدمها، ومنها ما يوفره السوق الانتخابي من عروض أخرى منافسة، من دون أن ننسى انطباعات الناس ومزاجهم العام، ناهيك عن آخر الأحداث والمستجدات، الواقعة بدورها في إكراهاتٍ تمليها السياقات الإقليمية والدولية.

السلوك الانتخابي، وهو على تلك الحال من التقلب، واقع تحت جملة عوامل تشكل في تداخلها "كبة" من الخيوط الرقيقة والمتداخلة، إنه سلوك على شاكلة قماشٍ، يصعب فيه أن تعيد فرز خيوطه الأولى بشكل دقيق. ما وزن تلك العوامل وما منطق ترتيبها: هل البرامج أم الصور أم السياقات... وغيرها مما نعتقد أنها محددات؟

عن هذا الجواب، تتفرع نظريات ومدارس تستعين بمناهج وتقنيات مختلفة. الثابت في كل ما عددناه أنه لا أحد ما زال يدافع عن أطروحة المحددات الطبيعية التي ذكرناها منذ البداية.

هل صوتت الرمال لحركة النهضة والبحر والجبال مثلًا لحركة نداء تونس؟ حتى ولو افترضنا دقة هذا التقسيم، على الرغم من طمسه مكونات حزبية أخرى، فذلك لا معنى له سوسيولوجياً. علينا أن نستعين، قدر الإمكان، بالتاريخ السياسي والجغرافية الاجتماعية، حتى نفهم ذلك "السر". فما أن نستعمل شمال /جنوب، حتى تقفز في مخيلتنا جملة من الصور النمطية الجاهزة. لن أشير إليها حتى لا أنثر الملح على الجرح، وهذا جزء من التفسيرات الخاطئة.

علينا أن نعود، ثانية، إلى أندري سيفرد في تفسيره وبرهنته على تلك الأحجية، فحيثما ينتشر الغرانيت في فرنسا تنتشر بنى اقتصادية واجتماعية متحللة، على غرار الزراعة الممكننة والصناعة المتطورة التي تشيع سلوكات فردية وجماعية متحررة، فيصوّت أصحابها لليسار، وحيث ينتشر الكلس تنتشر وحدات اقتصادية واجتماعية صلبة ومتماسكة تشيع سلوكات محافظة، فتصوت لليمين.  "نمط الإنتاج المادي والرمزي المبتكر على قاعدة جغرافية طبيعية، هو "الصندوق الأسود" لصندوق الاقتراع. تظل تلك البنى الاجتماعية والاقتصادية والذهنية مفتوحة على أوجه التغيير الممكنة، بمقتضى ديناميكية التصنيع وتفاعل البنى الاجتماعية والذهنية معها.لكي نفهم بعض ما حدث من تغيرات في الخارطة الانتخابية في انتخابات 2014، يكون مفيداً أن نعود إلى نمط الإدماج السياسي والاقتصادي الذي اتبعته الدولة التونسية منذ انبعاثها الحديث، وأساساً منذ الحقبة الحسينية وحتى دولة الاستقلال.

لم يكن الجنوب في أحيان عديدة سوى تخوم لتلك الدولة، وهو" بر سيبة" بالمعنى الإنتروبولوجي للكلمة. لا أحد ينكر انتشار القبائل المخزنية في "تلك التخوم" آنذاك، ولكن، كان عددها محدوداً مقارنة بالقبائل المخزنية الأخرى، المنتشرة في الشمال والساحل وحتى الوسط. كانت مرتبطة عضوياً بالمخزن، وهي تتولى في مواضع عديدة مناولة سياسية واجتماعية لسلطة الباي، حين تعجز عن أداء مهامها.

وعلى الرغم من ذلك، خاض أهالي الجنوب معارك مع المستعمر الفرنسي، وأبلوا البلاء الحسن في الدفاع عن وطنٍ، كان إلى وقت قريب يجافيهم. كانت آخر البنى القبلية المحتضرة تحت مفاعيل التحديث الكولونيالي قد أبدت من الصلابة ما أجبر الاستعمار على اتخاذ إجراءات قمعية، أهمها منع الترحال وإجبار القبائل على الاستقرار، ناهيك عن مصادرة الأراضي.

لم يتغير بعد الاستقلال نمط العلاقة بين الجنوب والدولة المركزية كثيراً، وتعطلت مسارات الإدماج السياسي، وظل تمثيل هذه المنطقة في النخب السياسية الناشئة وأجهزة الدولة ضعيفاً، ولم تستطع عبارات المديح الكاذب مثل: "أنتم جنودنا البواسل"، في إشارة إلى دورهم في صد أي تحرشات، قد يبديها الجار الليبي، خصوصاً، أن تجسر الهوة.

ضعف حظوظ الجهة من التنمية والإقصاء السياسي المتعاقب مع أنظمة الدولة الوطنية لم يتغير، وربما كان التغيير الوحيد ذي الدلالة تولي نخبة من أبناء الجهة مناصب متقدمة في النخبة السياسية، لما بعد الثورة، على غرار رئاستي الحكومة والجمهورية.

ربما يمنحنا هذا المعطى، وغيره مما ذكرت، بعض فرضيات التصويت، فكأن الجنوب يخشى أن يسارع النظام المقبل إلى غلق ذلك القوس السياسي الذي انفتح عليه، ودمجهم في مواقع متقدمة، لأول مرة في التاريخ السياسي الحديث لتونس. على خلاف ذلك، استفاد الساحل والشمال، وإن بشكل أقل، من الدولة الوطنية، وحتى مما قبلها وكانت جل النخب الاقتصادية والاجتماعية منتدبة منه. لذلك، أبدى رأيه من خلال فعل التصويت، خشية افتقاد مكانته المتقدمة في النخبة السياسية.

الجنوب يبدي باتجاهاته التصويتية سلوكاً تحررياً بالمعنى السياسي، ويستند، في ذلك، في مفارقة اجتماعية غريبة، إلى "ثقافة محافظة"، ويبدي الشمال والساحل سلوكاً محافظاً بالمعنى السياسي، حين يرغب في استدامة المكسب السياسي القديم، ويستند في مفارقة على خلفية ثقافية متحررة.

في كل الحالات، علينا أن نستبعد في تفسير الخارطة الانتخابية التي سطرتها نتائج الانتخابات الأخيرة الاستناد إلى عوامل طبيعية تريد نسخ ما يناظرها من جغرافية ذهنية لسكان الجنوب وسكان الشمال.  الأمر يعود إلى استراتيجيات انتخابية مستوحاة من تمثلات للتاريخ السياسي للنخب، وقدرة الدولة على الدمج السياسي. ذلك ما تولت الشبكات السياسية والقرابية إنجازه على الأرض.

هناك من ينفخ في نار الفتنة، طمعاً، حين يحرض أهالي الجنوب على "تبرئة أنفسهم" من سلسلة تهم توجه إليهم، وكأن عليهم أن يثبتوا عكس ذلك، فيجني فيئها الانتخابي، وهذا عين الابتزاز، وهناك من يفتخر بتصويت سكان الشمال وكأنها قلاعه الانتخابية الأبدية وقاعدة مشروعة الاجتماعي الوطني. ليس مستبعداً تحريك رمال متحركة من الولاءات التحتية، هي ما تحت الدولة، حتى تبدو البلاد وكأنهما إقليمان، بينهما شرخ سحيق، منه ستتسلل، لا محالة، أكثر الانتماءات رعباً.

7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.