تونس: خيارات صعبة أمام "النهضة"

14 ديسمبر 2014
"النهضة" في موقع تهب عليه كل العواصف (الأناضول)
+ الخط -

يتصف الموقف السياسي التونسي هذه الأيام بحالة غموض شديدة فرضتها البيانات التكتيكية والمناورات ومنطق الابتزاز السياسي عبر تصريحات وتصريحات مضادة من الفريق نفسه. وتسيطر حالة من التردد الكبير على قرارات بعض الأحزاب، التي ستكون الأيام القليلة المقبلة آخر فرصها للاصطفاف السياسي والتموضع النهائي في خارطة الحكم والمعارضة بعد استهلاك الوقت الضروري لاستنزاف المنافسين والوصول بهم إلى آخر ساعات المناورة، وهي لعبة أصبحت القيادات السياسية في تونس بارعة في نسج خطوطها.

وتقف حركة "النهضة" في مفترقٍ تؤدي إليه كل الطرق الباقية، فطريق الرئيس الحالي والمرشح الرئاسي منصف المرزوقي يقود إليها، وحزب "نداء تونس" الذي يقوده المرشح الرئاسي الباجي قائد السبسي ينتظر موقفها، و"الجبهة الشعبية" ترهن تحالفاتها بقطع العلاقات معها.

وعلى عكس ما يبدو من إيجابية في الإمساك بخيوط اللعبة، تبدو "النهضة" في موقع تهبّ عليه كل العواصف الممكنة هذه الأيام، إضافة إلى ما يتأتى من تحتها أو داخلها من مزايدات ومناورات واختلافات، أظهرتها للعيان استقالة أمينها العام السابق حمادي الجبالي، وزادت من حدّتها ميول قواعدها وجزء من قياداتها الواضحة في اتجاه دعم المرزوقي.

ويُفترض بالحركة أن تجد في اليومين المقبلين مفتاحاً للمعادلة الصعبة التي تحافظ بها على قواعدها وتضمن لها عدم الانقلاب عليها، على ألا يكون متناقضاً مع إعلانها الدائم عن تمسكها بالديمقراطية وتحقيق أهداف الثورة، والمحافظة على موقع لها في تركيبة السلطة القادمة بما لا يقصيها من المشهد السياسي ويحفظ لها وجودها كقوة أساسية في الساحة السياسية ويتيح لها العودة إلى الحكم ذات يوم.

ولا يبدو الأمر سهلاً مطلقاً على الحركة التي تتنازعها الاختلافات بوضوح على الرغم من محاولات التكتم، غير أن بعض الجمل المخفية في مواقف بعض قياداتها قد يساعد على فهم ما يدور هذه الأيام في حي "مونبليزير" حيث مقرها، وما يُطرح أمامها من خيارات موضوعية في ضوء هذه المعطيات المتداخلة.

وجاءت استقالة أبرز قيادييها التاريخيين حمادي الجبالي منذ يومين لتعمّق من صعوبة الاختيار لدى الحركة بسبب الإحراج الواضح الذي سبّبته هذه الاستقالة ودفعها إلى الاقتراب أكثر من خيار دعم المرزوقي، فلا يُخفى على المقربين من الحركة أن استقالة الجبالي على الرغم مما تخفيه من نزعة شخصية، تُعبّر في الوقت نفسه عن رأي جزء كبير من قيادات "النهضة" إضافة إلى جزء أكبر من قواعدها، وهو أمر لم تخفه الحركة في بيانها الأخير.

هذا البيان أرادته "النهضة" رداً على موقف "الجبهة الشعبية" التي رهنت دعمها للسبسي بمقاطعة "النهضة" وعدم التحالف معها، وتجاهلت الحركة تقريباً استقالة الجبالي واختارت الرد على الجبهة ببيان يقول الكثير عما يدور في ذهن قياداتها العليا، بما أن زعيم "النهضة" راشد الغنوشي هو الذي وقّع على البيان، الذي تضمّن إشارة إلى أن "الحركة على اقتناع كامل بأن بلادنا في المرحلة السياسية المقبلة بحاجة لحكم تشاركي واسع لا يُقصي أحداً، وأن دعوات الوفاق أقوى وأكثر قبولاً لدى أبناء شعبنا من دعوات التقسيم والإقصاء".

وأشار البيان في الوقت نفسه إلى استنكار الحركة "للابتزاز المفضوح من قِبل الجبهة الشعبية لمرشح "نداء تونس" من خلال اشتراط عدم إشراك النهضة في الحكم مقابل دعمه في الانتخابات"، وهو ما قد يعني أن "النهضة" تقترب أكثر من فكرة "الحكم التشاركي" والالتقاء كما يُروَج حول حكومة الوحدة الوطنية أو حكومة كفاءات تُوافق عليها غالبية القوى السياسية في تونس.

ولكن "نداء تونس" يرهن في الوقت نفسه تلاقيه مع "النهضة" بحيادها في الانتخابات الرئاسية، وهي التي أكدت في بيانها أنها "اختارت الحياد وفوّضت لأبنائها وأنصارها حرية الاختيار".

في المقابل، أعلن الأمين العام لحزب "نداء تونس" الطيب البكوش في حديث إذاعي أن حركة "النهضة" لن تشارك في الحكومة المقبلة، مؤكداً أن "لا وجود لتحالف مع النهضة ولن يكون هناك تحالف".

وقال إن "النهضة اختارت أن تكون في المعارضة بما أنها ترأست لجنة المالية في مجلس النواب"، مضيفاً "نحظى حالياً بأغلبية برلمانية، يدعمها حزب "آفاق تونس"، و"الاتحاد الوطني الحر" و"المبادرة"، إلى جانب بعض المستقلين، ويقارب عدد هؤلاء الـ120 نائباً تقريباً"، وهو ما يعني أن "النداء" قد حسم أمره في هذا الموضوع.

ولكن تصريحات أخرى وتسريبات كثيرة تفيد أن الحقيقة غير هذا تماماً، بما أن "النهضة" و"النداء" يواصلان الحوار والمناورة في الوقت نفسه، ويسعى كل منهما لتحصيل ضمانات حقيقية من الآخر في جوّ من عدم الثقة الواضح الذي لا يمكن البناء عليه سياسياً.

وقال نور الدين البحيري وزير العدل في حكومة الترويكا ورئيس كتلة "النهضة" البرلمانية، حول العلاقة مع "نداء تونس"، "نحن بصدد النقاش، وليس هناك شيء حتى الآن، ونتمنّى أن تسود بيننا روح تشارك، ولا تكون روح الغلبة العدديّة".

كما تمنى أن تتوفّر الفرصة أمام التونسيين "لتشكيل حكومة وحدة وطنيّة تُمثّل أوسع طائفة من التونسيين، تنكبّ بشكل أساسي على خدمة تونس وعلى مواجهة تداعيات هذه المرحلة الصّعبة والخطيرة".

وفي السياق نفسه، قال القيادي البارز في "النهضة" الحبيب خضر "إنّ الحديث في هذا الموضوع سابق لأوانه، بالنسبة إلى بعض الأطراف التي تنتظر استكمال المحطّة الانتخابيّة الرئاسيّة، وبعد ذلك ربّما يُفتح المجال للحديث في هذه المسائل".

هذا الكلام يؤكد أن هناك توجهات حقيقية داخل "النهضة" لعدم قطع الطريق أمام التحالف أو التعايش مع "النداء"، والإبقاء على كل الخيارات متاحة أمامها إلى آخر لحظة، ولكن لحظة الحسم بدأت تقترب ولم يعد بالإمكان تأجيلها أكثر لأن القواعد والأنصار في الانتظار، وقد يكونون رهان "النهضة" الحقيقي الذي تجازف به هذه المرة.

المساهمون