لم تنل الأزمات الاقتصادية التي مرت بها تونس في السنوات العشر الأخيرة من سوق إيجارات العقارات بمختلف أنواعها التي ظلت تسجل قفزات دون الاكتراث بتراجع مستوى المعيشة ولا نسب التضخم المتفاقمة.
وسوق الإيجارات من النشاطات القليلة التي نجت من الصعوبات الاقتصادية التي مرّت بها تونس، مستفيدة من زيادة الطلب على الإيجارات مقابل تراجع كبير في اقتناء العقارات المعدة للسكن أو النشاطات التجارية.
ويساهم تراجع مبيعات العقارات بنسبة تفوق 60 بالمائة في زيادة الطلب على الإيجار وارتفاع قيمته التي تخطت القدرة الإنفاقية لأغلب شرائح المجتمع، بحسب مراقبين.
ووفق مواطنين وخبراء اقتصاد، تلتهم الإيجارات في تونس نحو 40 بالمائة من رواتب من يسكنون في بيوت مؤجرة، ما يمثل ثقلاً كبيراً على النفقات الأسرية التي شهدت بدورها تراجعاً بسبب أزمة كورونا وتزايد نسب البطالة والفقر، فيما تحافظ الإيجارات على مكاسبها دون اكتراث بتداعيات الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي تمرّ بها البلاد.
ويجدد الخبير العقاري، نور الدين شيحة، مبررات عديدة لنجاة سوق الإيجارات من كل الأزمات الاقتصادية التي مرت بها البلاد، مؤكداً أن الأسعار التي أخذت منحىً تصاعدياً منذ عام 2011 لم تتراجع إلى الآن.
وأضاف شيحة في تصريح لـ"العربي الجديد" أن ارتفاع الأسعار مرده زيادة الطلب على المساكن المعدة للإيجار مقابل تراجع كبير في الطلب على التمليك نتيجة تضخم أسعار العقارات المسوّقة وشحّ السيولة وزيادة نسب الفائدة البنكية على قروض العقارات.
وأكد الخبير العقاري أن المطورين (المستثمرين) العقاريين يشكون منذ سنوات تقلصاً وصعوبات في عمليات البيع، ما أدى إلى حصول ركود تام بدأ منذ 2012، ما انعكس بدوره على زيادة الطلب على الإيجارات وارتفاع قيمتها، فضلاً عن توسع نشاط وكالات التأجير التي تحولت إلى نشاط منظم في السنوات الأخيرة.
ورجّح شيحة أن تستمر هذه الوضعية على حالها، نظراً لضعف القدرة الشرائية للمواطن التونسي، مشيراً إلى أن أغلب شركات البعث العقاري مهددة بالانهيار في وقت ليس بعيداً، وفق قوله.
وحسب بينات رسمية، سجّل المؤشر العام لأسعار العقارات إلى حدود الربع الأخير من عام 2019 زيادة بـ128.7 بالمائة مقارنة بعام 2010، وبدأ المنحى التصاعدي للإيجار في الصعود بنحو صاروخي منذ 2011 إبان الثورة الليبية التي توافد خلالها نحو مليون ليبي على تونس، وزادوا الطلب على الإيجار وشراء الشقق.
ومنذ ذلك التاريخ دخلت سوق الإيجارات في تونس في دوامة الزيادات التي لم تتوقف عجلتها حتى في أحلك الفترات الاقتصادية التي تمرّ بها البلاد، وفي ظل تراجع دخول الأسر بنسب تراوح بين 150 و400 دينار، وفق دراسة أنجزها المعهد التونسي للقدرة التنافسية والدراسات الكمية (مؤسسة حكومية).
وقدرت الدراسة أن دخل الأسر التونسية سيتقلص في المعدل بنسبة 2.9 بالمائة بالنسبة إلى فترة شهر من الأزمة وبنسبة 8.6 بالمائة لفترة ثلاثة أشهر.
ويدفع ارتفاع أسعار العقارات إلى تغيير عميق في ثقافة التونسيين الاجتماعية المتعلقة بالسكن، حيث تغذي الأسعار الملتهبة ثقافة الإيجار مقابل تراجع ثقافة التمليك التي تسيطر على التونسيين.
وأدى تراجع المبيعات في الفترة الأخيرة، إلى انتشار لافتات للإيجار في شوارع العاصمة والمحافظات، وكذلك داخل المدن والأحياء السكنية الجديدة.
عدد من أصحاب مكاتب التسويق العقاري، أكدوا أن هناك أسباباً عديدة سببت تراجع البعض عن فكرة التمليك مؤقتاً، على أمل تحسن ظروفهم خلال الفترة المقبلة، ومن بين هذه الأسباب ارتفاع أسعار العقارات وضعف القدرة الشرائية لدى المواطنين، الأمر الذي جعل الكثير يبحث عن شقق بنظام الإيجار، أملاً في تحسن السوق العقاري.
ولا تنكر الوكيلة التجارية في وكالة عقارية، نور هدى بن صالح، انفلات أسعار الإيجارات في تونس، لكنها تؤكد أن هذه الزيادات مردها إلى ارتفاع أسعار الشقق عند الشراء.
وتقول إن أصحاب الشقق المعروضة للإيجار يدفعون أقساط البنوك من رسوم الإيجار التي يقبضونها من المؤجرين، لكنها لا تنكر وجود مغالاة وشطط في الإيجارات مقارنة بمعدل دخول التونسيين الذي لا يجاوز 1200 دينار.
وتؤكد المتحدثة لـ"العربي الجديد" أن الأسعار تخضع لتقييمات عديدة، منها المنطقة السكنية ونوعية الشقق ومساحتها وقربها من المراكز الإدارية والتجارية الكبرى، لكنها لا تخضع لمقاييس الدخل والتضخم والقدرة الإنفاقية للباحثين عن الإيجارات، وهم في أغلبهم من أصحاب الرواتب أو المهن الصغرى، وفق قولها.
ويخضع المستأجر عند إبرام العقد، وفق تشريعات العقود والالتزامات التونسية، لسعر يحدد مسبقاً عند إبرام العقد مع زيادة سنوية بنسبة 5% عند التجديد السنوي للعقد.
ويحتل قطاع العقارات والبناء في الخريطة الاقتصادية للبلاد أهمية كبرى، إذ إنه يمثل 14 بالمائة من جملة الاستثمارات السنوية في البلاد و12.6 بالمائة من القيمة المضافة للاقتصاد الوطني، حسب بيانات رسمية.