وبينما كانت رئيسة صندوق النقد الدولي، كريستين لاغارد، في نيويورك، تنوه بمصادقة نواب تونس على قانون الاستثمار، كان ذات النواب يتبادلون الاتهامات مع الحكومة حول التهاون في ملف شركة "بتروفاك" النفطية البريطانية.
وكانت الشركة قد أعلنت عن قرارها بمغادرة الجزيرة، بسبب توقف الإنتاج واعتصام العمال المستمر منذ أكثر من ثمانية أشهر، قبل أن تتراجع عن قرارها أمس الجمعة. وفي السياق أعلن وزير الشؤون الاجتماعية، محمد الطرابلسي، أمس عن توقيع الاتفاق النهائي المتعلق بعودة الشركة لمباشرة مهامها. وأوضح أن بنود الاتفاق تنص على انتداب 266 من أصحاب الشهادات العليا على مراحل، مع تقنين عملية الصيد البحري في قرقنة، والتي تعد من بين أسباب التوتر في المنطقة في الفترة الماضية مع رصد عائدات بـمليوني دينار للاستثمارات في قرقنة.
وتبدو قضية قرقنة، كما الحوض المنجمي، تحدياً جديداً لحكومة يوسف الشاهد، كما كانت لحكومة الصيد، واختباراً لمفهوم هيبة الدولة، الذي دافع عنه السبسي بشراسة خلال حملته الانتخابية الرئاسية، وبنى حوله استراتيجية اتصالية تنتقد "الأيادي المرتعشة للترويكا" وغياب الدولة وسيطرة الفوضى.
ولعل المفارقة أن الترويكا كانت تتهم معارضيها بعرقلة حكومتها، ورفعت شعار "وضع العصا في العجلة" لتعطيل مشاريعها، على الرغم من رصد الميزانيات المالية لذلك. وهو نفس ما رددته حكومة الصيد، ومن قبلها حكومة مهدي جمعة، وتردده اليوم حكومة الشاهد، من أن هناك أحزاباً وقوى سياسية تعمل على تعطيل المشاريع وإثارة الفوضى وتضع العصا في العجلة أيضاً. كما أن هناك مفارقة أخرى، إذ توجه أصابع الاتهام إلى "الجبهة الشعبية اليسارية"، و"حزب التحرير الإسلامي" المنادي بالخلافة، بإثارة مشاكل قرقنة والوقوف وراء أزمة شركة "بتروفاك"، أي في ذات الموقع في قرقنة!
وتأتي قضية "بتروفاك" قبل أسابيع من انعقاد ندوة دولية للاستثمار في تونس، وضع السبسي كل قواه لإقناع المؤسسات المالية الدولية وأهم قادة العالم، بضرورة دعمها، لأنها تمثل جرعة أوكسيجين مصيرية لاقتصاد محلي يموت كل يوم ببطء، ويهدد المسار الديمقراطي.
واعتبر السبسي أن زيارته إلى الولايات المتحدة الأميركية للمشاركة في أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة وفي منتدى الأعمال الأميركي الأفريقي، كانت "ناجحة بشكل غير متوقع"، من خلال الاستقبال الذي حظي به من قبل الإدارة الأميركية والحوار الذي أجراه معه وزير الخارجية الأميركي جون كيري أمام زعماء العالم وقادته وكبار رجال الأعمال الأميركيين. وقال السبسي، في تصريح صحافي مساء الأربعاء قبيل مغادرته نيويورك عائداً إلى تونس، إن هذا النجاح يترجم مساندة الولايات المتحدة لتونس في مسارها الانتقالي وسعيها لتجاوز الوضع الاقتصادي الصعب الذي تعيشه. وأكد، في تصريحات نقلتها وكالة الأنباء التونسية، أن الرئيس الأميركي باراك أوباما تعهد بدعم تونس، وهو أمر وصفه السبسي بـ"المطمئن". واعتبر أن "المساندة الأميركية كافية في الوقت الحالي، ولكن لا بد من العمل على تطويرها"، وأن تونس "محظوظة بصداقاتها، ولا سيما مع الولايات المتحدة الأميركية". وأشار إلى أن اجتماعاته مع لاغارد ورئيس البنك الدولي جيم يونغ كيم كانت "إيجابية".
وبخصوص الندوة الدولية للاستثمار التي تعتزم تونس تنظيمها في نهاية شهر نوفمبر/تشرين الثاني، قال رئيس الجمهورية إن المسؤولين التونسيين سيتوجهون إلى عدد من دول العالم للتسويق لهذه الندوة، وحشد أكبر عدد ممكن من المشاركين، مبرزاً ضرورة مضاعفة الجهد لإنجاحها. وأكّد السبسي أن تونس كسبت معركتها ضد الإرهاب، وأنها "ستبدأ اليوم حربها ضد الفساد، حتى تتمكن من إرساء دعائم دولة القانون والمؤسسات... لأنه ليس لنا خيار سوى الديمقراطية".
لكن على الرغم من هذا التفاؤل، والجهد الدبلوماسي الاقتصادي، جاءت قضية "بتروفاك" لتوجه رسالة سلبية حول مناخ الاستثمار في تونس، وعجز الدولة عن فرض الأمن الضروري لهذه الشركات الدولية، برغم أن عدداً من الأصوات ارتفع ليؤكد أن خروجها من تونس ليست نهاية العالم، وأنه ربما حان الوقت لتغييرها ومراجعة شروط عمل مثل هذه الشركات، التي تنهب ثروات البلد منذ عقود.
ووُجهت أصابع الاتهام صراحة إلى حكومة الحبيب الصيد التي فشلت في إيجاد حل لهذا الملف برغم استفحاله منذ أشهر، وعاد الحديث مجدداً عن "عسكرة القطاعات الاقتصادية الحيوية".
ويبدو اختبار قرقنة، كما المناجم، خطوة حاسمة في مسيرة حكومة الشاهد، إن تمكنت من حلها فإنها ستواصل المسيرة، وإن فشلت فإنها ستكون أمام وضع صعب للغاية، وربما تلقى المصير نفسه الذي لقيته الحكومة الماضية، على الرغم من أن ما حدث في قرقنة وفرنانة سيترك آثاراً بالغة على الوضع النفسي للتونسيين، وهو ما دفع إلى وصفها بأنها حكومة الحل الأخير من طرف قيادات هامة، من بينها القيادي بحركة النهضة عبد الحميد الجلاصي، الذي اعتبر أن "حكومة الشاهد هي حكومة الفرصة الأخيرة، وغير مسموح لها بالفشل".
لكن الشاهد، بالإضافة إلى كل هذه الهموم، منشغل أيضاً بخلافات حزبه "نداء تونس"، وقضية توليه رئاسة هيئته السياسية. وقال الجلاصي، في تصريح صحافي، إن حزبه "مستعد للقيام بأدوار للمساهمة في حلها بطريقة عقلانية... ولن نسامح أنفسنا أمام التاريخ إن عدنا إلى تجربة حزب الدولة أو حزب الإدارة". وأشار إلى أنه لم يعد بإمكان البلاد أن تتحمل صراعات أي حزب، داعيا الشاهد إلى "أن ينأى بنفسه عن الرمال المتحركة للنداء، كما أن الأصدقاء في نداء تونس مطالبون بإيجاد آليات عقلانية ديمقراطية تعين الحكومة على النجاح، بدل أن تتسبب في تصدير مشاكلها إليها". وانضم إلى الجلاصي في هذه النصيحة كل من الأمين العام لـ"مشروع تونس"، محسن مرزوق، والقيادي الأول في "الحزب الجمهوري"، عصام الشابي، وعدد من الشخصيات السياسية الأخرى من خارج "النداء"، بالإضافة الى قيادات "النداء" المعارضة بشراسة لهذا المقترح الذي اعاد من خلاله نجل السبسي خلط الأوراق، وربما جرّ الحزب إلى انشقاقات جديدة.
غير أن السؤال الحقيقي يبقى متعلقاً بالشاهد نفسه، وإن كان سيستمع إلى كل هذه النصائح، ويعتبرها بريئة وصادقة، وبعيدة عن حسابات الانتخابات المقبلة، التي قد تكون السبب الرئيسي في رغبته بقيادة الحزب.
لكن بعض المتابعين يؤكدون أن الشاهد، وإن أخّر هذا الأمر الآن، بسبب موجة ردود الفعل، فإنه سيصل إليها لا محالة، لأن اللعبة الحقيقية في تونس ستجري بعد ثلاث سنوات، أي في انتخابات 2019.