تونس أمام لحظة تاريخيّة

27 ديسمبر 2014

احتفالات بفوز السبسي في الانتخابات الرئاسية التونسية (22 ديسمبر/2014/أ.ف.ب)

+ الخط -

أُسدِل الستارُ على فصلٍ جديدٍ من دراما الربيع العربيّ في تونس، بفوز الباجي قايد السبسي، (العجوز) الذي هرم "من أجل هذه اللحظة التاريخيّة". فهي لحظة الانتصار التي انتظرها طويلاً، ليصبح رئيساً فترة مدّتها خمس سنوات من "الحكم الدائم"، كما وصفه محسن مرزوق، مدير حملته بنبرة فيها تشنّج وتشفٍّ كثيران، وهو يخطب أمام أنصار حزبه، قائلاً: "المؤقّت انتهى اليوم من دون رجعة... بعد أن عشنا ثلاث سنوات من الفقر المؤقّت والإرهاب المؤقّت"، وقد شكّل تصريحه بالفوز المؤكّد مفاجأة صادمة، بسبب توقيته المبكّر، إذْ جاء متزامنا مع موعد إغلاق مراكز الاقتراع، وقبل بداية أعمال الفرز، الأمر الذي أثار غضب المواطنين التونسيين في بعض ضواحي العاصمة، وفي الجنوب، حيث خرجت مظاهراتٌ رافضة تلك النتائج والتصريحات.

هكذا، يتجاوز الندائيّون والإعلام الذي يدعمهم، مرّة أخرى، قوانين اللعبة الانتخابيّة، بإعلانهم عن النتائج بطريقة استباقيّة استفزازيّة، ترقى إلى مستوى الانقلاب على المؤسّسات التي أفرزتها توافقات الانتقال الديمقراطيّ. وقد سبق للهيئة العليا للانتخابات أن حذّرت من تكرار ما وصفتها بالجريمة الانتخابيّة التي ارتكبت في الموعدَيْن السابقين، ونهت عن نشر استطلاعات سبر الآراء، قبل أن تُعلِن بنفسها عن النتائج الأوّليّة، لكنّ الإعلاميّين العاملين في المؤسّسات التي خلّفها نظام بن علي أثبتوا أنّهم فوق القانون، وأنّ سلطانهم يتجاوز هيبة الدولة ومؤسّساتها الدستوريّة، كهيئة الانتخابات وهيئة الإعلام السمعيّ البصريّ، (الهيكل الذي سلّط عليهم عقوبات لم تجدِ نفعاً)، فتجاوزوا، على الرغم من ذلك كله، جميع النصوص القانونيّة والتحذيرات المسبقة، حتّى شاهد التونسيّون البثّ المباشر لنتائج الاقتراع من مقرّ حركة "نداء تونس"، بدل أن يكون من المركز الإعلاميّ للهيئة المستقلّة للانتخابات بطريقةٍ تدلّ على احتقار مؤسف للعمليّة الانتخابيّة برمّتها، وللهيئة التي تشرف على حسن سيرها، إذْ أصبح نشاطها مقتصراً على تقديم نسب المشاركة في التصويت، أمّا الفوز فأعلنه المهرولون إلى قصر قرطاج.

ولقد ساهمت تلك الهرولة في إثارة الغاضبين من النتائج المعلنة، وتغذية المواقف المشكّكة في نزاهة العمليّة الانتخابيّة، وكان الرئيس المنصف المرزوقي قد حذّر بنفسه، في أثناء الحملة الأخيرة، من تزوير دأب عليه خبراء النظام السابق، فعبّر عن ثقته في الفوز، بعد أن عاين الحشود التي استقبلته في المدن الكثيرة التي تنقّل إليها، واطمأنّ إلى القول "إنّ منافسه لن يفوز إلاّ بالتزوير". ولكنّه قبل، في النهاية، بالهزيمة، ودعا المحتجّين إلى الهدوء. غير أنّ أنصاره أطلقوا على مواقع التواصل الاجتماعي حملة تشكيك للتنديد بما اعتبروه "تزويرا بيّنا"، منح الفوز للسبسي. وقد أكّد رئيس الهيئة، شفيق صرصار، نزاهة الانتخابات في كلّ مراحلها، داعيا كلّ من لديه دليل يثبت حدوث تزوير إلى التوجّه للقضاء.

وفي غمرة هذه الشكوك التي تتعاظم، مع مرور الوقت، ظهر ارتباك لدى قياديّي حركة "نداء تونس"، بعد أن اتسعت دائرة الغضب، وتطوّر الاحتجاج السلميّ إلى أعمال انتقاميّة، فأحرق الغاضبون مقرّات الحركة في مناطق متفرّقة من الجنوب التونسيّ الذي صوّت بكثافة للمرزوقي. ونظراً لخطورة الموقف، سارع الندائيّون إلى التصريح بما يساعد على تطويق مخاوف الغاضبين والمعارضين، ومنها اعتبار فوز السبسي مؤشّرا قويّا لعودة النظام القديم، بكلّ ما تعنيه تلك العودة من قمع للحريّات واستئناف لسياسات تقوم على الظلم والفساد، ومواصلة تهميش الجهات المحرومة من التنمية. وفي هذا السياق، أكّد "رئيسنا المنتخب" أنّ "رئيس الحكومة لن يكون من وزراء بن علي"، في محاولة واضحة لإبعاد شبهة التطبيع مع نظام المخلوع التي تلاحقه منذ تأسيسه حركة "نداء تونس". كما لاطف، في أوّل تصريح له بعد الإعلان عن فوزه، خصمه اللدود المرزوقي، فشكره وأكّد له "حاجته إلى نصائحه وخبرته"، للتخفيف من حدّة الاحتقان التي ظهرت لدى أنصاره. وأكّد، في التصريح نفسه، أنّ حريّة الصحافة مكسب من مكاسب الثورة، لا مجال للتراجع عنه، وأنه لن يسمح بعودة الهيمنة والاستبداد، بعد أن طُويت صفحة الماضي.

واللاّفت أنّ هذا الخطاب يذكّر التونسيين ببيان (7 نوفمبر)، حيث وعد بن علي شعبه بالوعود الجميلة نفسها، ثمّ سرعان ما تنكّر لها، وبسط ذراعيه ليحرسَ كهف دكتاتوريّته البغيضة مدّةً تجاوزت عقدين. وفي هذه اللحظة التاريخيّة، يقف التونسيّون ربّما على مقربة من الكهف نفسه أو الجحر، و"لا يلدغ المؤمن من جحر مرّتين".. صدق رسول الله. أمّا رئيسنا الجديد فلا ندري مدى صدقه في ما أطلقه من الوعود والبشائر، لكنّنا لا نشكّ في يقين الآية التي قرأها، وهو يتحدّث عن قبوله الأمانة التي سيحملها في الفترة المقبلة: "إنّا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال، فأبينَ أنْ يحملنها، وأشفقن منها، وحملها الإنسان، إنّه كان ظلوما جهولا".

بهذه الأمانة الثقيلة، يدخل قايد السبسي قصر قرطاج، ليواجه ملفّات قد لا يقدر على معالجتها، ومغالبة تشعّباتها، بحكم سنّه ووضعه الصحيّ، فيظلمَ نفسه وشعبه والناخبين الذين وضعوا ثقتهم فيه. وبذلك العجز، لن يكون إلا "ظلوماً جهولاً"، كما اعترف بمنطوق الآية الكريمة... وفي مقابل ذلك، يتحرّر المرزوقي من قيود الحكم وإكراهاته، ليلتحم بالجماهير التي تنتظر زعيماً، تأمنه على حقوقها من خلال معارضة قويّة قادرة على مراقبة الحكّام الجدد، وتعطيل السياسات التي من شأنها أن تخون مبادئ الثورة وتتنكّر لأهدافها. وهكذا ينقذ المنصف المرزوقي لحظتنا التاريخيّة التي هرمنا من أجلها، (وتنكّرت لها غالبيّة الأحزاب)، بإعلانه أمام حشود غفيرة من أنصاره تأسيس "حركة شعب المواطنين"، وتعهّده بالعمل على تحقيق أهداف ثورتنا المباركة. فليس من الحكمة الانسحاب في منتصف الطريق. ستواصل الجماهير مسيرتها لتنتصر تونس على أعدائها، بقيادة الزعيم المرزوقي الذي كان، ومازال، ثوريّاً صادقاً لم تغيّره المناصب، فانتصر لمبادئه، وهو رئيس في قرطاج، وسينتصر لها، وهو زعيم لشعب المواطنين.

42AEC1D7-8F5A-4B18-8A1C-9045C7C42C2B
عبد الرزاق قيراط

كاتب وباحث تونسي من مواليد 1965. من مؤلفاته كتاب "قالت لي الثورة" سنة 2011. وكتاب "أيامات الترويكا" سنة 2014. له مقالات متنوعة بصحف ومواقع عربية عديدة.