30 مارس 2020
تلك المليارات الغارقة في العراق
رافد جبوري
كاتب وصحفي عراقي، مراسل تلفزيون العربي في واشنطن، له مقالات وبحوث منشورة باللغتين العربية والانكليزية، ماجستير في التاريخ المعاصر والسياسة من جامعة لندن.
انشغل الرأي العام العراقي بقضية اكتشاف أن مبلغا كبيرا، هو سبعة مليارات دينار عراقي (ستة ملايين دولار) قد تعرّض للتلف، حينما تسربت مياه الأمطار إلى أحد مخازن مصرف الرافدين الحكومي. كان الغضب الشعبي جليا مما بدا فضيحة أخرى لهدر المال، ومثلا آخر على سوء الإدارة، بل والفساد الذي ينخر أجهزة الحكومة العراقية، والذي تثبته دوريا تقارير المنظمات الدولية. حظيت القضية باهتمام كبير على مواقع التواصل الاجتماعي، وكانت أيضا محورا لبرامج تلفزيونية حوارية عديدة، بل وصل الاهتمام بها إلى الدول العربية المجاورة، بسبب عناصر الطرافة والصدمة.
ولكن نظرة متفحصة لما حدث تشير إلى أن للقضية أبعاداً أخرى، فالمليارات لم تغرق اليوم، بل قبل خمسة أعوام نتيجة لموجة أمطار غزيرة حينذاك! ما حصل أن القضية أثيرت قبل أيام في أثناء جلسة استماع لمحافظ البنك المركزي العراقي، علي العلاق، في مجلس النواب، وتم توجيه السؤال له عن حادثة الغرق، فأجاب موردا بعض تفاصيلها، لتشتعل مواقع التواصل الاجتماعي مستنكرة الواقعة. وتصدّر حملة الاستجواب في المجلس، وإثارة واقعة المليارات الغارقة، نواب من التيار التابع للزعيم الشيعي مقتدى الصدر. ويُعتقد أنه كان للصدريين أيضا دور في إطلاق الحملة على مواقع التواصل ضد المحافظ العلاق، وهو من الشخصيات القيادية في حزب الدعوة الشيعي. وقد عينه خصم الصدريين الأبرز رئيس الوزراء الأسبق، نوري المالكي، في منصبه، وأبقى عليه حليف الصدريين رئيس الوزراء السابق، حيدر العبادي.
لم تكن الحملة السياسية والإعلامية مقتصرة على علي العلاق، بل على أكثر من شخص من عائلته المتنفذة في حزب الدعوة الذي أزيح من رئاسة الوزراء التي شغلها ثلاثة من أعضائه
منذ عام 2005. وقد لعبت عائلة العلاق دورا بارزا في طبقات الحكم العليا في حزب الدعوة، وأبرز وجوهها محافظ البنك المركزي علي العلاق، وشقيقه مهدي العلاق، الأمين العام لمجلس الوزراء، وسياسي آخر أعلى مستوى في قيادة حزب الدعوة، اسمه علي العلاق أيضا، وهو رجل دين ونائب في البرلمان. وقد لعب الأخير دورا مهما في دعم حيدر العبادي، للوصول إلى رئاسة الوزراء بعد الالتفاف على المالكي عام 2014. وفي عهد العبادي، تعزّز دور عائلة العلاق وتأثيرها على رئيس الوزراء.
ولكن حجم الخلل في نظام عمل البنك المركزي أكبر بكثير من المليارات السبعة الغارقة، فمحافظ البنك المركزي كان محقا في قوله إن الخسارة لم تتجاوز كلفة طبع العملات، خصوصا أن الحادثة حصلت قبل أن يتولى منصبه، وفي عهد محافظ آخر، لكن هذا لا ينفي الحقيقة الأكبر، وهي أن النظام الذي يدير به البنك المركزي عملية تداول العملة الصعبة في السوق المحلية يمثل منفذا كبيرا من منافذ الفساد الذي تشترك فيه القوى السياسية المهيمنة بشكل غير مباشر، فالبنك ينظم، منذ عام 2003، ما يسميها النافذة الإلكترونية لتداول العملات، وما يعرف شعبيا بمزاد العملة الصعبة. في هذا المزاد، يبيع البنك المركزي عائدات العراق من تصدير النفط من العملة الصعبة، الدولار الأميركي تحديدا، بسعر أقل من سعره الحقيقي أمام الدينار العراقي من أجل المحافظة على سعر صرف الدينار، لكن البيع مقتصر على مجموعةٍ معينةٍ من المصارف الخاصة المعتمدة، ومن المعروف على نطاق واسع أن كل واحد من هذه البنوك يستند إلى دعم من إحدى القوى السياسية المسيطرة. ومنذ العام 2003، ضخت مبالغ كبيرة بالدولار، وحققت المصارف الخاصة، ذات الحظوة والدعم السياسي، أرباحا هائلة مستفيدة من مزاد العملة المستمر.
كانت الحملة ضد محافظ البنك المركزي وعائلته تكريساً لدور جديد أقوى تلعبه المجموعة الموالية للصدر ضد خصومها، لكن الحملة امتدّت إلى أبعد من قواعد التيار الصدري بكثير، إذ تساند قطاعات واسعة غاضبة في العراق كل عملية هجوم على الشخصيات والمجموعات المتنفذة. هناك من يقول إن نزاعات داخلية داخل النظام السياسي مثل هذه قد تؤدي إلى إصلاح حقيقي ومحاسبة، ولكن حتى إذا تمت إزاحة علي العلاق من منصب محافظ البنك المركزي وتقليص نفوذ عائلته، فإن نظاما، مثل نظام مزاد العملة، سيستمر ممولا للأحزاب المسيطرة بشكل غير مباشر.
ربما تثير الخصومات بين المجموعات المهيمنة على الحكم والنفوذ في العراق جدلا إعلاميا، بسبب عناصر الطرافة والدراما أحيانا فيها، لكنها محكومة بتوازناتٍ تضمن استمرار مصالح الطبقة السياسية وأحزابها الطائفية الشيعية والسنية والكردية. وفي إطار أعم، يشير خصوم التيار الصدري إلى أنه جزء من المنظومة السياسية التي تتربح من سيطرتها على الوزارات والمناصب الرئيسية، فالسيطرة على المناصب الكبرى تتيح لشاغليها وأحزابهم الحصول على العمولات الكبيرة، والصفقات المربحة التي تترتب على العقود التي تمنحها وزارات الحكومة والصفقات التي تبرمها. وقد أثارت قضية المليارات السبعة الغارقة ضجةً كبيرة في العراق، لكن قدرا أكبر بكثير من مليارات العراق منذ عام 2003 لم تغرق، بل تسربت إلى المتنفذين في قنواتٍ معدّة بعناية، مثل مزاد البنك المركزي للعملة وصفقات الوزارات، في إطار منظومةٍ لا يُتوقع منها أن تصلح نفسها.
ولكن نظرة متفحصة لما حدث تشير إلى أن للقضية أبعاداً أخرى، فالمليارات لم تغرق اليوم، بل قبل خمسة أعوام نتيجة لموجة أمطار غزيرة حينذاك! ما حصل أن القضية أثيرت قبل أيام في أثناء جلسة استماع لمحافظ البنك المركزي العراقي، علي العلاق، في مجلس النواب، وتم توجيه السؤال له عن حادثة الغرق، فأجاب موردا بعض تفاصيلها، لتشتعل مواقع التواصل الاجتماعي مستنكرة الواقعة. وتصدّر حملة الاستجواب في المجلس، وإثارة واقعة المليارات الغارقة، نواب من التيار التابع للزعيم الشيعي مقتدى الصدر. ويُعتقد أنه كان للصدريين أيضا دور في إطلاق الحملة على مواقع التواصل ضد المحافظ العلاق، وهو من الشخصيات القيادية في حزب الدعوة الشيعي. وقد عينه خصم الصدريين الأبرز رئيس الوزراء الأسبق، نوري المالكي، في منصبه، وأبقى عليه حليف الصدريين رئيس الوزراء السابق، حيدر العبادي.
لم تكن الحملة السياسية والإعلامية مقتصرة على علي العلاق، بل على أكثر من شخص من عائلته المتنفذة في حزب الدعوة الذي أزيح من رئاسة الوزراء التي شغلها ثلاثة من أعضائه
ولكن حجم الخلل في نظام عمل البنك المركزي أكبر بكثير من المليارات السبعة الغارقة، فمحافظ البنك المركزي كان محقا في قوله إن الخسارة لم تتجاوز كلفة طبع العملات، خصوصا أن الحادثة حصلت قبل أن يتولى منصبه، وفي عهد محافظ آخر، لكن هذا لا ينفي الحقيقة الأكبر، وهي أن النظام الذي يدير به البنك المركزي عملية تداول العملة الصعبة في السوق المحلية يمثل منفذا كبيرا من منافذ الفساد الذي تشترك فيه القوى السياسية المهيمنة بشكل غير مباشر، فالبنك ينظم، منذ عام 2003، ما يسميها النافذة الإلكترونية لتداول العملات، وما يعرف شعبيا بمزاد العملة الصعبة. في هذا المزاد، يبيع البنك المركزي عائدات العراق من تصدير النفط من العملة الصعبة، الدولار الأميركي تحديدا، بسعر أقل من سعره الحقيقي أمام الدينار العراقي من أجل المحافظة على سعر صرف الدينار، لكن البيع مقتصر على مجموعةٍ معينةٍ من المصارف الخاصة المعتمدة، ومن المعروف على نطاق واسع أن كل واحد من هذه البنوك يستند إلى دعم من إحدى القوى السياسية المسيطرة. ومنذ العام 2003، ضخت مبالغ كبيرة بالدولار، وحققت المصارف الخاصة، ذات الحظوة والدعم السياسي، أرباحا هائلة مستفيدة من مزاد العملة المستمر.
كانت الحملة ضد محافظ البنك المركزي وعائلته تكريساً لدور جديد أقوى تلعبه المجموعة الموالية للصدر ضد خصومها، لكن الحملة امتدّت إلى أبعد من قواعد التيار الصدري بكثير، إذ تساند قطاعات واسعة غاضبة في العراق كل عملية هجوم على الشخصيات والمجموعات المتنفذة. هناك من يقول إن نزاعات داخلية داخل النظام السياسي مثل هذه قد تؤدي إلى إصلاح حقيقي ومحاسبة، ولكن حتى إذا تمت إزاحة علي العلاق من منصب محافظ البنك المركزي وتقليص نفوذ عائلته، فإن نظاما، مثل نظام مزاد العملة، سيستمر ممولا للأحزاب المسيطرة بشكل غير مباشر.
ربما تثير الخصومات بين المجموعات المهيمنة على الحكم والنفوذ في العراق جدلا إعلاميا، بسبب عناصر الطرافة والدراما أحيانا فيها، لكنها محكومة بتوازناتٍ تضمن استمرار مصالح الطبقة السياسية وأحزابها الطائفية الشيعية والسنية والكردية. وفي إطار أعم، يشير خصوم التيار الصدري إلى أنه جزء من المنظومة السياسية التي تتربح من سيطرتها على الوزارات والمناصب الرئيسية، فالسيطرة على المناصب الكبرى تتيح لشاغليها وأحزابهم الحصول على العمولات الكبيرة، والصفقات المربحة التي تترتب على العقود التي تمنحها وزارات الحكومة والصفقات التي تبرمها. وقد أثارت قضية المليارات السبعة الغارقة ضجةً كبيرة في العراق، لكن قدرا أكبر بكثير من مليارات العراق منذ عام 2003 لم تغرق، بل تسربت إلى المتنفذين في قنواتٍ معدّة بعناية، مثل مزاد البنك المركزي للعملة وصفقات الوزارات، في إطار منظومةٍ لا يُتوقع منها أن تصلح نفسها.
دلالات
رافد جبوري
كاتب وصحفي عراقي، مراسل تلفزيون العربي في واشنطن، له مقالات وبحوث منشورة باللغتين العربية والانكليزية، ماجستير في التاريخ المعاصر والسياسة من جامعة لندن.
رافد جبوري
مقالات أخرى
20 مارس 2020
12 مارس 2020
05 مارس 2020