تلك العلاقة بين نسبية القيم والبطاطس

27 نوفمبر 2018
+ الخط -
هناك مبدأ معروف في العلاقات الدولية يسمى "نسبية القيم" في السياسة الخارجية والعلاقات الدولية، وهو ببساطة أن ما تراه أنت صوابا يراه غيرك جريمة شنعاء، وما تراه أنت جريمة بشعة أو مذبحة أو فسادا يراه غيرك ضرورة كان لا بد منها من أجل إسعاد البشرية، وهو المبدأ الذي يجعل دولةً ما تتغاضى عن مذابح في دولة أخرى، بحجة عدم التدخل في شأن دولةٍ ذات سيادة، في حين أنها قد تتدخل في شؤون دولة أخرى بذريعة دعم الشرعية أو دعم الديمقراطية. والتنظيمات الإرهابية لا ترى أنها تمارس الإرهاب، بل تعتقد أنها تنصر الحق، وتسعى إلى تحرير البشرية، وكذلك الدولة الإرهابية القمعية لا ترى أنها تقمع مواطنيها وتظلمهم، بل يعتقد الحاكم الظالم أنه يحافظ على دولته وشعبه من الأخطار، وهناك حركاتٌ بدأت بحركات تحرّر وطني، وارتكبت في طريقها مذابح أكبر وأضخم مما فعله الحاكم المستبد، الغول لا يرى نفسه غولا.
السياسة الدولية مثل الغابة، البقاء للأقوى، والقوي يأكل الضعيف، لا توجد سلطة حاكمة، ولا قواعد ثابتة، لا يوجد شرطي للعالم يطبق القانون بالعدل، فالقانون الدولي تم وضعه بناء على العُرف والممارسات الواقعية قبل أن يصبح قانونا، وحتى القانون الدولي والقواعد التي تم إقرارها في الأمم المتحدة يمكن خرقها بمنتهى السهولة، إذا كان من قام بذلك في موضع قوي.
لغة العضلات هي اللغة الوحيدة. المصالح هي العملة الدارجة، من أجل المصالح تتغير الشعارات والمبادئ بمنتهى السهولة، تتغيّر خريطة الحلفاء والأعداء طبقا لمصلحة الدولة، أو طبقا لمصلحة حاكم الدولة الذي يتعامل كأنه هو الدولة، من كان عدوا بالأمس يصبح فجأة حليفا، ومن كان حليفا بالأمس يمكن أن يكون العدو في آخر النهار، وليس في السياسة الدولية تكامل، بل هو الصراع الدائم حول المصالح، والذي تستخدم فيه جميع الأسلحة المشروعة وغير المشروعة.
حادث قتل الصحافي جمال خاشقجي بتلك الطريقة البشعة أحد الأمثلة على ذلك، فكتائب التطبيل في مصر والمنصّات الإعلامية الموالية للنظام استمرت على الوتيرة نفسها منذ بداية ظهور الأخبار. الإنكار الشديد في البداية لذلك الحادث، واتهام تركيا وقطر باختلاق واقعة الاختفاء، وأن خاشقجي حي يرزق، ثم مع تدفق التسريبات، وتأكيد مقتل الرجل، تغيرت النغمة نحو استخدام نظرية المؤامرة، واتهام تركيا بتدبير الحادث، لإحراج السعودية، وربما نزل خبر اعتراف السعودية بالجريمة كالصاعقة على قطعان التطبيل، فكذبهم ونفاقهم أصبحا واضحَين، خصوصا مع استمرار التسريبات التي أظهرت مدى بشاعة الجريمة. ولكنهم تداركوا الصدمة، وتغيرت النغمة إلى الحديث عن السيادة واستخدام لغة المشاعر القومية والعروبية، فأصبحوا يدافعون بكل بجاحة عن الجريمة الشنعاء قائلين. وما المشكلة، لقد تمت معاقبة رجل سعودي على أيدي السلطات السعودية على أرض سعودية، فما دخل ترامب والعالم بما حدث؟ وما دخل صحيفة واشنطن بوست؟ إنها بلا شك المؤامرة الأميركية على السعودية، يريدون أن يفعلوا بها كما فعلوا مع العراق من قبل عندما فككوه، إنها مؤامرة التقسيم والتفكيك.
ولكن هذا النفاق لم يصمد كثيرا أمام حديث ترامب ودفاعه عن بن سلمان، فترامب يراوغ، بهدف حماية بن سلمان وحماية المصالح الأميركية، ففي البداية أنكر ترامب أيضا تورّط بن سلمان، ثم مع تدفق المعلومات والتسريبات التي تدين بن سلمان شخصيا بشكل قاطع، اضطر ترامب للتبرير الصريح بأن ما يريده من السعودية هو المال، والسعودية تدفع للولايات المتحدة أموالا كثيرة، وتدعم التصنيع والتوظيف في الولايات المتحدة، فقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان التي تصنف قيما غربية ليست أولويات بالنسبة لترامب وأمثاله في اليمين المتطرّف في الغرب.
والعجيب أن تجد بعض من يصنفون أنفسهم قوميين عربا لا يزالون يدعمون نظرية المؤامرة الغربية، ومخططات التقسيم واستهداف السعودية، على الرغم من تصريح ترامب أخيرا الذي اعتبره بعضهم مفاجأة، على الرغم من أنه لم يكن مفاجئا لكثيرين، أن العربية السعودية قدمت الكثير من الدعم لإسرائيل، ولولا السعودية لضاعت إسرائيل، هل تريدون ضياع إسرائيل، وأن ترحل من المنطقة؟
تغيرت المعايير كذلك بالنسبة لإسرائيل التي ظلت سنوات عديدة العدو الرئيسي للعرب بشكل عام، لكنها اليوم تلعب دورا كبيرا في أحداث عربية كثيرة، فإسرائيل أصبحت الحليف الرئيسي لدول الخليج، والحامي لها من الخطر الإيراني، بالإضافة إلى العلاقات الاقتصادية العديدة، الغامضة والمتشابكة بين السعودية وإسرائيل ودولة الإمارات. ولذلك لا عجب اليوم في الأخبار المتداولة لمساعي رئيس حكومة إسرائيل، بنيامين نتنياهو، لتخفيف الضغط على السعودية.
وتصريحه بأنها حجر الزاوية في المنطقة، يشبه إلى حد كبير مساعيه السابقة لتخفيف الضغط في ملف حقوق الإنسان المصري، ثم تدخله لإعادة صفقات السلاح والمعونات الأميركية للجيش المصري التي توقفت فترة بعد 3 يوليو/ تموز 2013.
تعتبر إسرائيل محمد بن سلمان كنزا استراتيجيا كبيرا يجب الحفاظ عليه، وكذلك النظام المصري، فهناك صفقات كثيرة قادمة ستغير وجه المنطقة العربية بالكامل، وبن سلمان طرف رئيسي فيها، وهو أيضا الداعم الرئيسي والكفيل للنظام الحاكم في مصر. ولذلك نرى ذلك الدفاع الهستيري والتبرير لبن سلمان في وسائل الإعلام المصرية، فسقوطه يعني اختفاء الدعم والسند الأساسي.
هناك في السياسة الدولية تغيرات مفاجئة حسب مصلحة كل دولة، أو بالأصح حسب المصلحة والسياسات التي ينتهجها الحاكم. ولذلك، قد تتناقض المبرّرات بين وقت وآخر، حتى لو صدرت من الشخص نفسه. أمس، كانت حرب وغزو بزعم دعم الديمقراطية، واليوم دعم جرائم ومجرمين بزعم المصلحة العليا للبلاد، هل تريدون محاسبة القاتل وتحقيق العدالة وتضيع إسرائيل؟ ذكّرتني تلك المقارنة بمن سأل: هل تريدون الديمقراطية وتسود الفوضى بعد ذلك؟ أو من قال: هل تريدون البطاطس أم بناء الوطن؟
في نهاية المطاف، يبدو ترامب أكثر صدقا وصراحة في تشبيهه.
DE3D25DC-9096-4B3C-AF8F-5CD7088E3856
أحمد ماهر

ناشط سياسي مصري، مؤسس حركة 6 إبريل، حكم عليه بالحبس ثلاث سنوات، بتهمة التظاهر بدون ترخيص، وأفرج عنه في يناير 2017