13 نوفمبر 2024
تقويم خالتي
كانت خالتي أمية، لا تعرف الحساب تحديداً، وكلما أردت ممازحتها كنت أسألها عن تاريخ ميلاد أحد أولادها الأحد عشر، فتجيبني "لا يهمني أن أعرف، فكل واحد يحتفظ بشهادة ميلاده لنفسه"، لكنها تعدد على أصابعها أسماء عددٍ منهم، وهي تقول: هؤلاء أنجبتهم "قبل اليهود"، وتلتفت إلى أمي، وتسألها: كم سنة صار لهم "اليهود" داخلين غزة؟ أطلقت على حساباتها مصطلح "تقويم خالتي" الذي لم أفهمه في صغري، لكنني حين كبرت قليلاً عرفت أن "قبل اليهود" يعني قبل النكسة، أي قبل احتلال إسرائيل قطاع غزة في 1967.
وظل لأبي تقويمه الخاص أيضاً، ابتداء من النكبة ومروراً بالنكسة، وكلما استذكرها أمامنا، يؤكد أنه قد شهد حرب الساعات الست، وليس الأيام الستة كما أطلقت عليها إسرائيل، وأن هذا العام هو عام النزوح الفلسطيني، فيما كان 1948 عام اللجوء، وقد نزح فعلاً نحو 350 ألف مواطن فلسطيني، تشتتوا في أصقاع الأرض، وعمدت "إسرائيل" إلى ابتداع مصطلحي نازح ولاجئ، لأغراض تفاوضية، أضعفت من الموقف الفلسطيني على مر الزمن، وظل استذكار النكبة والنكسة طريقة لتحديد أعمار اللاجئين في غزة، كما خالتي وأبي، فكانت الجدات يحددن أعمارهن بأنهن ولدن قبل النكبة بسنوات قليلة، ويتجادلن ويقسمن الأيمان بأن فلانة خرجت من البلاد وهي "مدركة"، وتعني هذه الكلمة، في المصطلحات النسائية الفلسطينية، أنها بلغت مبلغ النساء، وربما تكون قد تزوجت ووصلت إلى غزة وهي تجر طفلين خلفها ولم تتجاوز السادسة عشرة، أما الأمهات الأصغر سناً فقد اتخذن من تاريخ عام النكسة تحديداً لأعمارهن ومناسباتهن، كما خالتي.
كانت أمي تتباهى بأنها أصغر سناً من خالتي بسنوات كثيرة، لأنها وضعت كل أولادها "بعد اليهود"، أي بعد 1967، وكنت أنا من جيل أوائل السبعينيات، وكثيراً ما تساءلت عن الاختلاف بيني وبين بنات خالتي اللواتي وضعتهن "قبل اليهود"، خصوصاً أنها أطلقت على إحداهن اسماً غريباً، وهو "عبور"، حين وصلت إليها الأنباء عن "عبور" زوجها قناة السويس سالماً، فارّاً من غزة، لأن المخاوف كانت كثيرة من أن تكرر "إسرائيل" مجازرها بقتل الرجال، كما حدث في حرب العام 1956، لكن إسرائيل ابتدعت طريقة أخرى، لكنها موجعة أيضاً، حيث قامت بعملية التهجير القسري للشباب في حافلات مغلقة، ومطلية باللون الأبيض، حملتهم إلى مدينة التحرير، والتف حولهم المصريون، يريدون قتلهم، معتقدين أنهم إسرائيليون، لولا تدخل الصليب الأحمر آنذاك، فقدم لهم المصريون فتات الخبز وثلاث ملاعق من "الفول المدمس" يومياً، حتى سمح لهم بالتفرق إلى أقاربهم في أنحاء الجمهورية.
وما يذكره أبي أنه فرّ من غزة سيراً على قدميه، مع جماعة من الرجال، منهم الحاكم المصري في غزة الذي فر متنكراً بثياب عامل، فقدم له أبي قطعة خبز وبعض حبات الأرز النيئ التي تشربت الكثير من ماء البحر في جيبه أياماً، وهو يقطع صحراء سيناء، ويرى بعينيه المدرعات المصرية المدمرة، فيما كان صوت مذيع مصري يعلو من راديو قديم، وهو يهتف "احمل حقائبك يا أخي إلى تل أبيب، فطائراتهم تتساقط كالذباب"!
ولأن الأمس يشبه اليوم، فبعد عدوان عام 2008 على غزة، بدأت اللواتي ولدن بعد النكسة يؤرخن لمناسباتهن الشخصية والاجتماعية ارتباطاً بتاريخ بدء هذا العدوان وانتهائه، كأن تتحدث إحداهن عن عملية جراحية، أجريت لها بأنها كانت قبل "حرب الـ 2008" بأيام، ونسيت خالتي طريقتها السابقة في التأريخ لأحداث حياتها، وأصبحت كلما التقيتها قبل أن تموت تقول: مات زوجي بأزمة قلبية قبل "حرب الـ 2008" بسنة، وهو ينتظر دوره في الدخول على معبر رفح، وهذه الشجرة زرعها ابني قبل خمسة أيام من استشهاده في أول أيام العدوان نفسه.