وأمام قاعة برلمان فارغة تقريباً، وجه النائب غازي الشواشي سلسلة من الأسئلة إلى وزير الخارجية التونسي، خميس الجهيناوي، حول خلفيات الموقف التونسي، وإن كان يمثل اصطفافاً إلى جانب النظام السوري، وتغيٌراً في الموقف التونسي من الملف السوري عموماً. ولم تخرج إجابة الجهيناوي تقريباً عن نفس الموقف الأول، إذ أكد أن تونس امتنعت عن التصويت لأن القرار لم يكن متوازناً، فهو "دان بشدة جرائم النظام في حق الشعب السوري... ولم يدن بنفس الحدة جرائم الجماعات الأخرى في هذا البلد، على غرار الجماعات الإرهابية". وأضاف إن "القرار ذاته تطرق إلى مواضيع أخرى، على غرار إنشاء لجنة دولية لدى محكمة الجنايات الدولية في لاهاي للتحقيق في جرائم النظام ضد الشعب السوري، وكذلك إلى بعض الجهات، على غرار حزب الله اللبناني، الذي هو جزء من الحكومة اللبنانية، وسياسة تونس الخارجية تمنعها من التدخل في شؤون الحكومات الأخرى". وأكد أن تونس سبق لها أن دانت النظام السوري في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وقرارها مستقل ولا يرتبط بأي معسكر، بل هو موقف سيادي تونسي خالص.
لكن جملة منفلتة ربما، أو مقصودة، وردت على لسان الجهيناوي، ربما تكشف حقيقة دوافع الموقف التونسي. فقد أشار إلى أن الموقف التونسي لا يخضع إلى أي معيار سوى المصلحة الوطنية، والقرار لم يكتف بإدانة النظام السوري، وإنما دان أيضاً أطرافاً أخرى، لم يسمّها، لتونس علاقات متميزة معها، وهي دول صديقة، ولا يمكن لها أن تصوت على قرار يستهدفها. ولا يحتاج الأمر لكثير من البحث، لأن هذه الاطراف هي إما إيران أو "حزب الله" أو روسيا. وبالإضافة إلى ما يمكن أن تستفيد منه تونس أمنياً بتوجيه رسائل متعددة أخيراً إلى النظام السوري، خصوصاً ما يتعلق بالإرهابيين التونسيين في سورية، فإن المؤكد تقريباً أن هناك رائحة روسية قوية تنبعث من وراء الكلام المبطن للوزير. ولعل الأحداث المتقاطعة التي استجدت في الأسابيع الأخيرة تقود إلى مزيد من الفهم لهذا المعطى العام، وقد تؤكد فعلاً أن ميزان المصالح التونسية قاد إلى ضرورة اتخاذ هذا الموقف المصلحي وغير المبدئي، كما أكد الشواشي، وشكّل رسالة قوية إلى الدب الروسي الذي يحلم دائماً بدفء المتوسط. وقال الوزير صراحة إن مواقف الدول، في مثل هذه المحافل الدولية، يتم تقييمها دولياً، ويُراهن عليها في العلاقات بين الدول، وهو ما دفع إلى اتخاذ هذا الموقف الذي تم بعد دراسة وبرويّة على أساس مصلحة تونس العليا، ولم يكن موقفاً اعتباطياً.
فمن هي هذه الدول الصديقة التي تحرص تونس على عدم إدانتها، وتوجّه لها هذه الرسالة القوية جداً؟ وبرغم العلاقات التاريخية التونسية الإيرانية، اقتصادياً على الأقل، فإن الثابت أن دفئاً كبيراً سرى في العلاقات مع روسيا في السنتين الماضيتين، أي في مرحلة دقيقة جداً مرت بها تونس اقتصادياً. وكانت السياحة شهدت انتكاسة كبيرة بفعل الاعتداءات الإرهابية، ومنعت دول أوروبية، تُعتبر أسواقاً تقليدية لتونس، مواطنيها من السفر إلى تونس، ما خلق شبه شلل في المؤسسات السياحية التونسية، التي ترتبط بها حياة مئات الآلاف، بشكل مباشر أو غير مباشر. وفي هذه اللحظة الدقيقة لتونس لم تجد غير الجزائر وروسيا لنجدتها، مع تدفق مئات آلاف السياح من هذين البلدين على تونس. وإن كان موقف الجزائريين تلقائياً وغير مفاجئ، فإن مئات آلاف السياح الروس، الذين تدفقوا على الفنادق التونسية وفي فترات غير فترات الذروة، شكَّلوا طوَّق نجاة حقيقية للسياحة التونسية.
وكانت الجمعية الروسية لمنظمي الرحلات السياحية أكدت أن التدفق السياحي من روسيا إلى تونس، خلال 2016، تطور بنسبة 137.2 في المائة مقارنة مع فترة 2014. وجاء في بيان الجمعية أن أكثر من 623 ألف مواطن روسي توجهوا نحو شمال أفريقيا، وأنه لدى تونس في السوق الروسية جمهورها الخاص، من الذين يقدرون المناخ اللطيف للبحر الأبيض المتوسط، وإمكانية الاستجمام الصحي والمنتجعات، بالإضافة إلى أن التوجهات تجري نحو استقرار الوضع والأمن. وتؤكد الأرقام أن عدد السياح الروس الذين يزورون تونس سنوياً لم يكن يتجاوز 300 ألف، إلا أن تونس تسعى للحصول على نسبة أكبر من عدد السياح الروس، خصوصاً من الـ 2.5 مليون متقاعد روسي. لكن الأمر لا يتعلق فقط بالسياحة التونسية التي تستعيد تدريجياً عافيتها، وإنما تشهد المفاوضات الاقتصادية بين الجانبين حركة كبيرة، تشمل عديد القطاعات الحيوية لتونس التي تعاني تراجعاً في الأسواق الأوروبية. وترغب تونس في فتح الأسواق الروسية أمام بضائعها القابلة للتصدير، خصوصاً تلك التي تشهد فائضاً كبيراً في الإنتاج.
لكن الوجع التونسي الأكبر اسمه ليبيا، إذ تعني عودة الاستقرار إلى هذا البلد نهاية أكبر المشاكل التونسية، الأمنية والعمالية والاقتصادية. ويلاحظ التونسيون أن المعسكر الغربي، بكل مكوناته، غير متسرع لحل هذا الملف نهائياً، برغم قدرته على ذلك. وتدرك تونس أن ديمقراطيتها مهددة بهذا التراخي. ومن هنا ربما تعول الدبلوماسية التونسية على عزم روسي ما في الملف الليبي. وتمكنت تونس تقريباً من إقناع الجميع بالعودة إلى طاولة المفاوضات، باستثناء اللواء المتقاعد، خليفة حفتر، الذي تبقى مفاتيحه بين أيدي الروس، الذين يبدون حماساً متزايداً بخصوص المبادرة التونسية. لكن تونس لا يمكنها أن تضع كل بيضها في سلّة واحدة، وفق هذا الوضع البراغماتي الجديد، لأنها في المقابل تلقى دعماً واضحاً من لاعب آخر في سورية، ونعني دول الخليج العربي، ولذلك فهي لا تتلاعب بهذه العلاقات، وتبقي على نفس موقفها العام من سورية بعدم إعادة العلاقات، بالرغم من ضغط أطراف في المعارضة التونسية، التي لم تنجح، في تليين موقف الرئيس الباجي قائد السبسي، الذي أكد مجدداً أنه سيعيد هذه العلاقات عندما يستتب الوضع في سورية، أي عندما يتم حل الإشكال نهائياً.