تعليم العربية ونزع التبعية الغربية
استولت الولايات المتحدة منذ عقود على مجال تعليم اللغة العربية لغير أبنائها، فألحقتها بمناهج تعليم اللغات الأجنبية الأخرى، وأسّست لمعايير في تدريسها ضمن جامعاتها، ثم صدّرتها إلى البلاد العربية. وقد تزايد الإقبال على تعلُّم العربية في أميركا الشمالية إبّان أحداث "11 سبتمبر" في العام 2001، ما دفع الجهات الحكومية إلى الاستثمار في هذا القطاع، لجهة دعم البرامج التعليمية.
أما في الجزء الآخر من العالم الغربي، أوروبا، فإن تعلّم اللغة العربية فيها وتعليمها يعود إلى القرون الوسطى، حيث اهتم رجال الدين المسيحيون بداية بالاطّلاع على العلوم العربية في مدن الأندلس، كإشبيليا وقرطبة، وعملوا بعدها على تعزيز تعليم العربية لأغراض تبشيرية. وتلت ذلك حركة واسعة من استقدام المخطوطات العربية إلى أوروبا. وفي أزمنة الاستعمار وما بعدها، كانت هناك على العكس محاولة لطمس اللغة العربية، باعتبارها لا تستأهل التعلُّم. وفي السنوات الأخيرة، تشهد أوروبا طفرة جديدة من الاهتمام بتعليم اللغة العربية، وخصوصا في بلدان مثل ألمانيا والسويد. وقد تكون موجات هجرة الناطقين باللسان العربي ولجوئهم سببا واضحا لتجديد العلاقة باللغة، والالتفات إلى تحديث كيفية اكتسابها. وقد تم هناك تطبيق الإطار المرجعي الأوروبي الموحد للغات على العربية، وعمل على تدريسها وفق منهج هذا الإطار.
في أزمنة الاستعمار وما بعدها، كانت هناك محاولة لطمس اللغة العربية، باعتبارها لا تستأهل التعلُّم
وفي الوقت نفسه، ازدهرت برامج تعليم العربية للناطقين بغيرها، وانتشرت مراكزها في بلدان عربية عديدة، ومعظمها بوصاية من المؤسسات التعليمية الأميركية، أو باتباع مناهجها. وقد أثبتت هذه البرامج فعاليتها وجدواها مقابل، مع الأسف، البرامج المحلية البحتة التي ما زال معظمها يعتمد المقاربات التقليدية في اكتساب اللغة.
هذه المشكلة جزء من كل، وتمثّل حالة بسيطة من معاناة كثير من مناهج تعليم العربية (إن لم يكن معظمها)، بما فيها المعنية بتعليم اللغة العربية لأبنائها. وهي كذلك جزء من مشكلة مجال الدراسات العربية بمجمله الذي استحوذ الغرب على المرجعية فيه، فأخذ بضاعتنا وردّها إلينا على الهيئة التي تناسبه.
في الواقع، يكمن أحد أسباب فشل برامج كثيرة لتعليم العربية لغة عصرية للتواصل في ربطها بالدين، إذ تتخذ النص القرآني مرجعيةً، فتتبدى غير مواكبة لاحتياجات المهتمين بالوظائف اليومية للغة، ومقامات استخدامها في مجالات الحياة المتعددة. أما السبب الآخر فهو التشبث بالمقاربة النحوية التي ترى في النحو منطلق تعليم اللغة وأساسه.
تعليم اللغة مدخل إلى تشكيل الفكر عن الثقافة التابعة لها.
تعليم اللغة مدخل إلى تشكيل الفكر عن الثقافة التابعة لها. وعليه، فإن وضع المناهج والمواد التعليمية أمر بغاية الأهمية. وهناك محاولات في دار العربية تسعى إلى تحديث المقاربات لتعليمها، وهناك تجارب تطبيقية استطاعت، إلى حد كبير، أن تؤسس بذرة متينة لرؤية متكاملة، من حيث المنهج وطرق التدريس والمحتوى، ولكنها تبقى محاولات مبعثرة، ما زالت تعتمد على الأطر والمعايير الغربية، وفيها إسقاطات وإملاءات كثيرة، الى جانب الاحتكار من حيث المواد التعليمية. لذا آن الأوان لنزع هذه الوصاية ولاسترداد التّحكُّم بدفة السفينة، فيكون مصدر المناهج والمعايير نابعا من أصحاب هذه اللغة، ولا يُتلى عليهم ما الذي عليهم أن يدرّسوه، أو كيف يدرّسونه. ينبغي بالتأكيد الاستفادة من طرق التدريس المرساة في اللغات الأخرى، ومن أحدث ما وصلت إليه الدراسات في مجالات علوم أصول التدريس واللسانيات واكتساب اللغات. ولكن المطلوب تطوير إطار مرجعي منبثق من مخرجاتٍ يحدّدها أصحاب اللغة أنفسهم، وإنشاء معايير محدّدة، تكون صالحة لتشكيل هيكلية يمكن على أساسها إنتاج الكتب التعليمية المنافسة داخل العالم العربي.
علاوة على ذلك، الإيمان بالكفاءات البشرية المتوفرة داخليا في مجال تعليم العربية للناطقين بغيرها ودعمها خطوة أساسية بهدف تعزيز الاكتفاء الذاتي في هذا المجال، كما أن هذه الكفاءات ستكون تدريجيا ركيزةً يعتمد عليها لتأهيل غيرها، عوضا عن استيراد نظائرها من المؤسسات التعليمية الغربية. وبالتالي، ستتبلور شبكة حقيقية من المتخصصين الذين يعملون معا ضمن رؤيةٍ مشتركةٍ لاستعادة صلاحية تمثيل مجال تعليم العربية للناطقين بغيرها إلى حيث تنتمي.