اعتاد اليمين الإسرائيلي، منذ أيام رئيس الحكومة الإسرائيلي الراحل أرييل شارون، ما بعد الانتفاضة الفلسطينية الأولى، وطالما كان في المعارضة، على اتهام القيادة السياسية في إسرائيل بأنها عاجزة عن مواجهة ما يسميه "الإرهاب الفلسطيني"، أو أي من الأطراف العربية، من خلال تقييدها لأيادي الجيش الإسرائيلي. وشكّل شعار "دعوا تساهال ينتصر" (الجيش الإسرائيلي) على مر السنوات ستاراً اختبأ اليمين خلفه، وأداة للطعن في قوة إرادة حكومات اليسار والوسط الإسرائيلي. لكن الآية انقلبت في عهد رئيس الحكومة الإسرائيلي الحالي بنيامين نتنياهو، وبشكل أكبر بعد اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثالثة.
فمع استمرار الانتفاضة ومحاولات أقصى اليمين من خارج الحكومة، ممثلاً بوزير الخارجية السابق أفيغدور ليبرمان، ومعه، للمفارقة، قادة المعسكر الصهيوني من اليسار بقيادة يتسحاق هرتسوغ، الادعاء بأن حكومة نتنياهو تقيّد أيادي الجيش الإسرائيلي وحركته، أعلن نتنياهو ووزير أمنه، موشيه يعالون، أكثر من مرة، آخرها مطلع هذا الأسبوع، أنه لا توجد أية قيود على نشاط الجيش لمواجهة الانتفاضة. وبدا أن تصريحات نتنياهو تعكس رغبة للتصعيد مبنية على استنتاجات من المشاورات الأمنية مع قادة الجيش، خصوصاً أن هذه المشاورات تمخضت في الأيام الأخيرة عن نشر مزيد من حواجز التفتيش العسكرية، وتكثيف عمليات الاعتقال التي تم خلالها، بحسب اعتراف يعالون صباح الأحد، اعتقال 800 فلسطيني منذ اندلاع الانتفاضة.
لكن تسريبات ضابط كبير في قيادة المنطقة الوسطى (وهي التسمية العسكرية الرسمية الإسرائيلية لقيادة الجيش المسؤولة عن الضفة الغربية)، أمس عن توصيات قدّمها الجيش الإسرائيلي للحكومة الحالية حتى قبل اندلاع الانتفاضة، تعكس في واقع الحال حجم الفجوة القائمة في المواقف الأساسية التي تحملها القيادة السياسية ممثلة بحكومة نتنياهو، مقابل المستوى العسكري "المهني والمحترف" لدى الجيش، في كل ما يتعلق بالضفة الغربية، وبالتالي التهديدات التي يواجهها الاحتلال وسبل مواجهتها.
التوصيات المذكورة والتي تتلخص عملياً في العودة إلى منظومة "التسهيلات للفلسطينيين وتحسين ظروف المعيشة، عبر خفض سن منح تصاريح العمل للشبان الفلسطينيين في إسرائيل، وفوق هذا كله التوصية بتوفير مركبات عسكرية حديثة ومحصنة، وأسلحة إضافية للسلطة الفلسطينية"، تعكس الفجوة بين منظور المستوى القيادي العسكري ونظرته للسلطة الفلسطينية وبين منظور المستوى السياسي ودوافع واعتبارات كل من المستويين. ففيما يتضح من التوصيات، وخصوصاً مسألة تزويد السلطة بأسلحة جديدة ومركبات سريعة ومحصنة، نظرة وظيفية للسلطة، باعتبارها "وكيلاً" وعاملاً مساعداً في ضمان الأمن الإسرائيلي، من خلال سلطة فلسطينية قوية (كما يريد الجيش) تفرض سيطرتها على الأراضي الفلسطينية، وتمنع الفلسطينيين من الوصول إلى نقاط التماس والاشتباك مع الجيش الإسرائيلي، أو حتى الخوض في عمليات ضد المستوطنين والمستوطنات، مع الأخذ بعين الاعتبار أن محاربة وإحباط أي عمليات أو تنظيم لخلايا "حماس" في الضفة الغربية، مصلحة ذاتية للسلطة الفلسطينية.
اقرأ أيضاً: "هآرتس": الاحتلال أوصى قبل الانتفاضة بتعزيز السلطة الفلسطينية
في المقابل، فإن رفض حكومة نتنياهو هذه التوصيات، والتذرع بأنه لا منطق لتسليح السلطة الفلسطينية أو تعزيز مكانتها، باعتبارها لم تعد شريكة لأي مفاوضات، في ظل رفض الإملاءات الإسرائيلية، يعكس بدوره أيضاً نظرة حكومة نتنياهو لدور ومكانة السلطة والمطلوب منها سياسياً، قبل أن يكون عسكرياً. فهي تمثّل لنتنياهو وحكومته، "ورقة تين" يتحجّج بها لرفض التقدّم نحو مفاوضات جادة، ولكن أيضاً، كيس رمل يوجه له نتنياهو ضرباته السياسية، و"مشجباً" يعلّق عليه كل سياساته بشكل يجعله يسوّق للإسرائيليين نفسه، باعتباره السد الواقي أمام الخطر الفلسطيني، خصوصاً أن وضعية السلطة الفلسطينية الحالية، مكّنته، منذ فشل مسار التفاوض الأخير وفق مبادرة وزير الخارجية الأميركي جون كيري، من تصوير سلطة الرئيس الفلسطيني محمود عباس بأنها رافضة للتسوية وتحرّض على العنف والإرهاب. هذه التهمة وجهها نتنياهو للسلطة مع انطلاق الانتفاضة الحالية، ولم يتراجع عنها جزئياً، بعد أن أكد قادة الجيش الإسرائيلي أكثر من مرة "الفوائد" التي يجنيها الأمن الإسرائيلي من "التنسيق الأمني"، وفي مقدمة هذه الفوائد تطويق الانتفاضة في مدن وبلدات الضفة الغربية ومنع التظاهرات أو أي أشكال من الاحتجاج الشعبي واسع النطاق في المدن الخاضعة للسلطة الفلسطينية.
وبالإضافة إلى الفجوة بين منظور الجيش وقيادته وبين منظور حكومة نتنياهو، فإن ردود الفعل الرافضة والغاضبة من القيادات السياسية الإسرائيلية لهذه التوصيات، كما تجلّت في تصريحات نتنياهو خلال لقائه كيري، الاثنين الماضي، والمتعلّقة بعدم تقديم أية تسهيلات أو "بوادر حسن نية" قبل انتهاء الانتفاضة الحالية، فإن كشف التوصيات والإرادة السياسية عليها، قد تلمّح إلى حرب بين المستوى السياسي وبين المستوى العسكري، بشأن من الذي يتحمل المسؤولية في الفشل الإسرائيلي في وقف الانتفاضة، وهل التقصير ناجم عن تقييد أيادي الجيش كما يقول ليبرمان وأنصاره، أم هو بسبب عدم وجود أفق سياسي، وفقاً لما صرح به أكثر من مرة قادة عسكريون، أوضحوا أنه حتى لو ساد الهدوء لبعض الوقت، فإنه لن يكون هدوءاً نهائياً، ولا بد في نهاية المطاف من الخوض في عملية تسوية سياسية تمنح الفلسطينيين أملاً بدلاً من اليأس والإحباط السائدين حالياً.
ويشار إلى ما رصده المحلل العسكري في "هآرتس"، عاموس هرئيل، من فجوة بين الوزراء الذين يطالبون بعملية اجتياح بري شاملة لمدن الضفة الغربية وبين القادة العسكريين الميدانيين الذين يشككون في جدوى عملية كهذه، ومن احتمالات أن تتحوّل عملية الاجتياح في نهاية المطاف إلى "حملة لجمع السكاكين من المطابخ الفلسطينية في الخليل ومحيطها".
وأضاف هرئيل في هذا السياق أن قيادة المنطقة الوسطى في جيش الاحتلال، وفي ظل الحظر الرسمي على إطلاق تسمية انتفاضة على الأحداث القائمة، تستخدم تعبير "هبة محدودة"، وتستعد في الوقت نفسه إلى تصعيد طويل ومرتقب في أحداث الانتفاضة، عبر المساعي لاستيعاب الدفعة القادمة من جنود الاحتياط في مطلع يناير/كانون الثاني المقبل.
اقرأ أيضاً: نتنياهو يقايض دعم السلطة الفلسطينية باعتراف أميركي بشرعية المستوطنات