بعث رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، رسائل ذات مضامين متضاربة في سعيه لمنع تدهور مكانة إسرائيل العالمية، وعدم السماح بحدوث قطيعة مع المجتمع الدولي، لا سيما أوروبا، وحرصه على تقليص الظروف التي قد تفضي إلى تعاظم حركة المقاطعة الدولية "BDS". لكن نتنياهو يقدم على ذلك غير مسلح باستعداد لإحداث تغيير حقيقي على مواقفه من حل الصراع، ليس فقط بسبب تطرفه السياسي على الصعيد الشخصي، بل، أيضاً، لأن طابع التركيبة اليمينية المتطرفة لائتلافه الحاكم تحول دون إحداث أي تحوّل على مواقف إسرائيل تجاه الصراع. فقد أقدم نتنياهو على إطلاق تصريحات سياسية عدة في مسعى لطمأنة الغرب بشأن مستقبل تعاطي حكومته الجديدة مع الملف الفلسطيني، فضلاً عن اتخاذه سلسلة من الإجراءات الإدارية لتحسين قدرة تل أبيب على مواجهة حركة المقاطعة.
لكن نتنياهو، في الوقت ذاته، أقدم على خطوات تدل تحديداً على عدم جدية تصريحاته المطمئنة. فخلال لقائه وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي، فرديريكا موغريني، أواخر الأسبوع الماضي، عرض فكرة الشروع في مفاوضات مع السلطة الفلسطينية حول حدود التجمعات الاستيطانية الكبرى في الضفة الغربية، وهذا ما فُسّر على أنه استعداد إسرائيلي لعدم البناء خارج هذه التجمعات، ضمن تسوية مؤقتة مع السلطة الفلسطينية.
في الوقت ذاته، فقد وافق نتنياهو على مقترح موغريني بأن يتم تعيين مندوب خاص للاتحاد الأوروبي يقيم بشكل دائم في القدس لتنسيق جهود الوساطة بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل. ونظراً لتعاظم المخاوف من اشتداد فاعلية حركة المقاطعة، فقد قررت الحكومة الإسرائيلية تكليف وزير الأمن الداخلي، يغال أردان، ثاني أهم وزير ليكودي في الحكومة بعد نتنياهو، بالمسؤولية عن تنسيق جهود "الدولة" ومؤسساتها في مواجهة المقاطعة.
لكن ما يقدّمه نتنياهو بيمينه يسحبه بسرعة بيساره. وتدل التعيينات التي قام بها، أخيراً، داخل الحكومة ومؤسساتها، على أن آخر ما يعنيه هو الدفع نحو حل الصراع مع الفلسطينيين. فإلى جانب تكليفه وزارة الأمن الداخلي والمسؤولية عن تنسيق الجهود ضد حركة المقاطعة، فقد تم تعيين أردان، أيضاً، وزيراً للقدس، مع العلم أنه من أكثر الوزراء حماساً لمشاريع التهويد والاستيطان، وهذا ما عبّر عنه بمجرد أن تم تكليفه بإدارة شؤون الوزارة. ليس هذا فحسب، فقد قام نتنياهو بتعيين النائب الليكودية المتدينة والمتطرفة، تسيفي حوطبيلي، نائبة لوزير الخارجية ومسؤولة عن تسويق مواقف إسرائيل للمجتمع الدولي. وفي أول لقاء مع سفراء إسرائيل في أرجاء العالم طالبتهم حوطبيلي بعدم إبداء أي ليونة في الدفاع عن مواقف حكومتها الأكثر يمينية.
اقرأ أيضاً: حيلة من نتنياهو لإحباط المبادرة الفرنسية وتثبيت الكتل الاستيطانية
وإن كان هذا لا يكفي، فقد عيّن نتنياهو سفير إسرائيل الأسبق في الأمم المتحدة، دوري غولد، الذي يعتبر أكثر النخب اليمينية تطرفاً، وكيلاً لوزارة الخارجية، ومسؤولاً عن التواصل مع وزارات الخارجية في أرجاء العالم.
ويكفي الاطلاع على الدراسات التي يصدرها "مركز يروشليم لدراسة المجتمع والدولة"، الذي يرأس غولد مجلس إدارته، حتى يصل لاستنتاج، بأنه يستحيل تسوية الصراع مع الفلسطينيين سياسياً، وإن الحل يكمن في تكريس الحقائق الاستيطانية على الأرض. ناهيك عن أن هذا المركز هو أكثر مراكز التفكير الإسرائيلية احتفاءً بالثورات المضادة في العالم العربي. وحتى لو افترضنا أن نتنياهو تحت وطأة الخوف من العقوبات الأوروبية والمقاطعة الدولية اقتنع بإبداء مرونة على مواقفه، فإنه ببساطة لا يستطيع، لأن حكومته تستند إلى أغلبية ضيقة جداً، إذ إنه لا يمكنه إغضاب شركائه في اليمين، ولا سيما حزب "البيت اليهودي"، الذي يُعدّ الذراع السياسية للمستوطنين في الضفة الغربية. هذا ما يفسّر صمت نتنياهو عن التصريحات بالغة الخطورة التي صدرت، أخيراً، عن النائب بتسلال سموتريش، القيادي في "البيت اليهودي"، الذي أبلغ "هآرتس" أن المستوطنين سيشرعون في تدشين مستوطنات جديدة وسيوسعون المستوطنات القائمة من دون الرجوع إلى الحكومة والتشاور معها.
لكن المزيد من الجهات الإسرائيلية تحذّر نتنياهو من تبعات أسلوبه المراوغ في التعاطي مع خطر المقاطعة الدولية. ويرى المعلق، ألون بن دافيد، أن المقاطعة الدولية تمثّل التهديد الاستراتيجي الأبرز الذي يمكن لإسرائيل أن تواجهه خلال الصيف المقبل. وفي مقال نشرته صحيفة "معاريف"، قال بن دافيد: إن إسرائيل ستصبح مثل الشخص المصاب بالجُذام الذي يحرص الجميع على الابتعاد عنه بفعل الطابع الذي تكرس عن الحكومة الجديدة في أرجاء العالم". وأشار بن دافيد إلى أن المبادرات ومشاريع القوانين التي سيحاول قادة الائتلاف الحاكم الجديد تمريرها، ستمنح إسرائيل المكانة الدولية نفسها التي "تمتعت" بها جنوب أفريقيا أبان حكم نظام الفصل العنصري.
من جهته، حذر معلق الشؤون السياسية في قناة التلفزة الثانية أودي سيغل، من أن فشل نتنياهو في منع تدهور مكانة إسرائيل الدولية سيفضي أيضاً للمسّ بجهوده الهادفة إلى منع التوصل لاتفاق نهائي "سيء" بين الدول العظمى وإيران. ورأى سيغل أن حساسية العالم لمواقف إسرائيل من أي اتفاق مستقبلي مع إيران ستتوقف على مدى ثقته بالحكومة الجديدة.
اقرأ أيضاً: نتنياهو يعيد استغلال عقدة الذنب الأوروبية لأهداف داخلية