صعدت المخابرات العامة والأجهزة الأمنية في مصر من استعداداتها التنظيمية والميدانية لمواجهة التجمعات الشعبية المتوقعة خلال الأيام المتبقية من شهر سبتمبر/أيلول الحالي، وذلك قبل حلول الذكرى الأولى لأكبر تظاهرات شهدتها مصر في السنوات الخمس الأخيرة، والتي اندلعت في العشرين من سبتمبر 2019 بتحريض من الممثل ورجل الأعمال محمد علي، ووضعت النظام في مأزق سياسي داخلي وخارجي كبير، ما زال يحاول الخروج منه إلى الآن. ويختلف التوقيت الحالي عن العام الماضي في أمور أساسية عدة، تزيد من ارتباك النظام برئاسة عبد الفتاح السيسي واحتمالات تعرضه لهزة كبيرة، أهمها تزامن دعوات التظاهر هذه المرة مع اتساع رقعة السخط والغضب الشعبي ضدّ النظام، وعدم مركزية الحراك الجماهيري كما حدث منذ عام، وعدم تبعيته لجماعة أو تيار بعينه، وكذلك عدم اقتصار التجمعات الشعبية المتوقعة على وسط القاهرة، وتحديداً ميدان التحرير الذي يمثل عقدة تاريخية للنظام. كما أن الموعد هذا العام يأتي في ظلّ المشاكل التي تعجّ بها المحافظات والمناطق الشعبية والفقيرة، بسبب ملف مخالفات البناء وتصعيد السلطات ضدّ المواطنين خلال الأسابيع الماضية، وتهديدها بهدم المنازل المسكونة، قبل أن تعود السبت الماضي وتبدي تراجعاً واضحاً بتخفيض قيمة التصالح في المخالفات وتوحيدها في المناطق الريفية، وتقديم حوافز للتصالح المباشر غير المقسط.
ستتبع الداخلية سياسة الانقضاض المفاجئ على مناطق بعينها
ورصدت "العربي الجديد" هذا الأسبوع، تواجداً مكثفاً لعناصر الأمن الوطني والمباحث في محيط ميدان التحرير وميادين وسط القاهرة المختلفة، والشوارع المحيطة بالمبنى الإداري لوزارة الداخلية، وكذلك بكورنيش النيل بالقاهرة والجيزة، ومناطق الدقي والعجوزة والهرم. هذا فضلاً عن غلق المقاهي في العديد من المحافظات والمناطق الشعبية أخيراً بالتزامن مع مباراة الأهلي والاتحاد السكندري بالدوري المصري، والتي كان من الممكن أن تنتهي بفوز الأول بالدوري رسمياً، مما قد يؤدي لخروج تظاهرات احتفالاً بفوز الأهلي، تتحول إلى تظاهرات ضدّ النظام، كما حدث من قبل. كما رصدت "العربي الجديد" عودة الكمائن المتحركة في محيط وسط العاصمة. وبحسب مصدر أمني مطلع، تم استيقاف أكثر من ألف شاب ورجل، خارج محطات مترو الأنفاق وفي الشوارع المحيطة بميدان التحرير، منذ الأربعاء الماضي، إذ صدرت تعليمات من الأمن الوطني بالكشف على هوياتهم بواسطة الأجهزة اليدوية المرتبطة بقاعدة بيانات الأمن الوطني وصحيفة الحالة الجنائية، وفحص هواتفهم المحمولة ومعرفة الموضوعات التي يبحثون عنها على المواقع المختلفة، وما إذا كانت مرتبطة بدعوات التظاهر، وكذلك طبيعة المنشورات على صفحاتهم الشخصية.
وقد تم اعتقال نحو مائة تبين أنهم مطلوبون في قضايا أمنية وجنائية، وعدد آخر (غير معروف) بسبب مراسلات ومنشورات لهم على مواقع التواصل الاجتماعي. وذكر المصدر أنّ الشرطة تتبع خلال الأسبوع الحالي الاستراتيجية التي ختمت بها أحداث سبتمبر العام الماضي، والتي تمثّلت في الإبقاء على صور المراقبة الأمنية، من إقامة لجان للتفتيش بعدد قليل من العناصر حول ميدان التحرير، وحشد حافلات صغيرة لتخويف المواطنين من الاعتقال، وغلق ميادين التظاهر في المحافظات واستحداث تحويلات مرورية. وفي الوقت نفسه إراحة العديد من القطاعات الأمنية وتقليل عدد أفراد المباحث الذين يتم الدفع بهم لتشكيل لجان وكمائن لاستيقاف المارة خصوصاً من فئة الشباب، وكذلك تقليل عدد الكمائن المرورية، لمنع إصابة أفراد الأمن بالإجهاد قبل الأيام المقبلة التي قد تشهد تصعيداً ميدانياً وحالة طوارئ قصوى، حال خروج التظاهرات كالعام الماضي. وأضاف المصدر أنه بناءً على تعليمات من اللواء أحمد جمال الدين، المستشار الأمني للسيسي، ستتبع الداخلية سياسة الانقضاض المفاجئ على مناطق بعينها لاعتقال واستيقاف وتفتيش عشرات الأشخاص من دون سابق إنذار، وبصورة شبه عشوائية زمنياً وجغرافياً. إذ تلقت المباحث في أقسام قصر النيل والدقي والمطرية وعين شمس والهرم والعجوزة ومدينة نصر، إشعارات من الأمن الوطني بالدفع بقوة والنزول المفاجئ لتمشيط وتفتيش بعض المناطق والمقاهي والشقق السكنية واستيقاف حافلات نقل عام وتفتيش الهواتف المحمولة بحوزة المواطنين، والقبض فوراً على من يكتشف الأمن متابعته لصفحات معارضة أو نشره مقاطع فيديو قديمة أو حديثة من القنوات المعارضة التي تبث من الخارج، وصفحات الممثل ورجل الأعمال محمد علي، وفق المصدر. كما عادت الداخلية منذ أيام، وبكثافة، لأسلوب تخويف المواطنين على مستوى آخر، هو القضايا الجنائية القديمة والأحكام الغيابية في جنح المرور وسرقة التيار الكهربائي ومخالفات البناء وغيرها من القضايا ذات عقوبات الحبس القصيرة التي لا تشرع الدولة في تنفيذ أحكامها إلا عندما ترغب في التضييق على المواطنين وجعلهم يشعرون بأنهم تحت الضغط كما كان معتاداً في السنوات الأخيرة من عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك. إذ عادت الكمائن للانتشار، كما كان عليه الأمر خلال الذكرى التاسعة لثورة يناير/كانون الثاني في بداية العام الحالي، لاستيقاف المواطنين من الحافلات على الطرق السريعة وفحص هوياتهم. وبالتوازي مع ذلك، كشف المصدر الأمني المطلع لـ"العربي الجديد"، عن استدعاء عدد من النشطاء السياسيين بالمحافظات والمعتقلين السابقين المفرج عنهم بتدابير احترازية إلى مقار الأمن الوطني، منذ منتصف الأسبوع الماضي، لتخويفهم وتحذيرهم من التورط في الدعوة للتظاهر، مع ترجيح حجز بعض المراقبين شرطياً، في الأقسام القريبة منهم عدة أيام لحين استقرار الأوضاع. وأوضح المصدر أنّ التقديرات الأمنية تشير إلى استمرار حالة الاستنفار، التي ستكون الأولى منذ بدء إجراءات مواجهة جائحة فيروس كورونا المستجد، حتى منتصف أكتوبر/تشرين الأول المقبل، وذلك لتزامن دعوات التظاهر مع اقتراب الأوضاع الميدانية بعدد من المحافظات كالإسكندرية والسويس والغربية من الاشتعال في أي لحظة بسبب الغضب الشعبي المتعاظم من التهديد الحكومي بهدم المباني المخالفة ورفض قبول طلبات التصالح في المخالفات بعد نهاية الشهر الحالي. وكشف المصدر عن توافر معلومات بشأن جهة أخرى محتملة لاشتعال الأوضاع، وهي سائقو سيارات التاكسي والنقل الخاص للأفراد والبضائع، الذين تشي تحركاتهم في مجموعات التواصل الخاصة بهم، بمزيد من التوتر والتهديد بالنزول للشارع، بسبب رفضهم الزيادة الكبيرة التي طرأت على رسوم التراخيص والتأمين، وإجبارهم على تسوية موقف التراخيص قبل العشرين من الشهر المقبل للدخول في شبكة المراقبة الكودية للمركبات، الأمر الذي يمثل تحدياً إضافياً للأمن والنظام. ويبدو أنّ النيابة العامة كانت أسبق من الداخلية في التعامل مع هذه الاعتبارات والخطة الأمنية استعداداً للتظاهرات، وذلك من خلال فتح قضايا جديدة بنظام التدوير للعشرات من المعتقلين المحبوسين في قضايا ذات طابع سياسي وحقوقي. علماً بأنّ النيابة ما زالت تجدد حبس حوالي ثلاثمائة شخص ممن اعتقُلوا منذ عام في تظاهرات سبتمبر وبعدها، من دون محاكمة، وذلك من إجمالي أكثر من ألف وسبعمائة شخص خرج معظمهم على مراحل كانت آخرها في مايو/أيار الماضي. وفي محاولة لتخفيف حدة الاضطراب الجماهيري والغضب الشعبي بين المصريين، خصوصاً في الأقاليم والمناطق الريفية والفقيرة بسبب إصرار النظام المصري وحكومته على أن يكون اليوم الأخير من شهر سبتمبر الحالي هو نهاية فترة تقديم طلبات التصالح في مخالفات البناء وسداد رسومها، أعلن رئيس الوزراء مصطفى مدبولي، السبت الماضي، عن توحيد سعر التصالح للمتر في المناطق الريفية بالحد الأدنى المقرر في القانون، وهو خمسون جنيهاً للمتر الواحد (3.18 دولارات أميركية).
عادت الكمائن المتحركة إلى وسط العاصمة القاهرة
كما أعلن مدبولي عن حافز آخر في محاولة لتهدئة الرأي العام، يتمثل في حسم خمسة وعشرين بالمائة من قيمة التصالح، إذا طلب المواطن إتمامه من دون تقسيط. وقد جاء ذلك بعد أيام معدودة من إعلان مدبولي المضي قدماً في الخطة الحكومية لتحصيل رسوم ومقابل للمخالفات من دون تنازلات، مع تفويض المحافظين في تخفيض المقابل في بعض المناطق لتحصيل أكبر قدر من المبالغ المالية، مما يعبر عن تراجع حكومي ملحوظ في هذا الملف، وفشل في إدارة الأزمة بالطريقة التي كان قد وجه بها السيسي. وأكدت هذه القرارات ما نشرته "العربي الجديد" في العاشر من الشهر الحالي، عن توصيات أمنية كشفتها مصادر حكومية بإحداث تغيير في التعامل الإعلامي والحكومي مع أزمة مخالفات البناء، يتمثل شقه الأول في السماح ببث ونشر مواد تتضمن انتقادات لقيمة التصالح في المخالفات ومطالبات بتخفيضها وتقسيطها، وذلك بهدف قطع الطريق على الإعلام المعارض ليكون الساحة الوحيدة للمواطنين الغاضبين كما هي العادة. أما الشق الثاني، فيتمثل في منح المحافظين سلطة خفض قيمة المخالفات بنسب تصل إلى خمسين أو أربعين أو ثلاثين بالمائة، حسب القيمة الأصلية لها وفقاً للقانون، أو تقسيطها بالنسبة للمناطق الحضرية.