28 أكتوبر 2024
تركيا بعد "درع الفرات"
قرار تركيا إنهاء معركة "درع الفرات" نابع من أن مرحلة التمدّد العسكري انتهت، وأن أنقرة أخذت حصتها الجغرافية الكافية لحماية مصالحها القومية العليا في سورية، وفق قراءة صناع القرار في الكرملين والبيت الأبيض. لكن الأتراك المحكومين بموازين القوى المفروضة من موسكو وواشنطن غير راضين عما تم تحقيقه في ضوء تنازلات أنقرة لموسكو، سواء في حلب أو في ما يتعلق بالهدنة العسكرية التي ما زال النظام السوري يخرقها أمام أعين الكرملين.
صحيح أن "درع الفرات" حققت هدفها في دحر تنظيم الدولة الإسلامية من الحدود التركية، لكنها لم تحقق أهدافها كاملة في ما يتعلق بـ"وحدات حماية الشعب الكردي"، فمنطقة "درع الفرات"، من جرابلس، شمالي شرق حلب، إلى أعزاز في الشمال الغربي، إلى مدينة الباب في الجنوب، استطاعت تحقيق فصل جغرافي بين عفرين في الغرب، ومنبج وعين العرب ـ كوباني في الشرق، أي أنها نجحت في شطر مناطق سيطرة الوحدات الكردية شرق الفرات، لكنها فشلت في فصل مناطق الهيمنة الكردية بين شرق الفرات وغربه، إذ لم تستطع تركيا إجبار الوحدات الكردية على مغادرة منبج أو عين العرب ـ كوباني وعبور النهر نحو الشرق.
موسكو وواشنطن متفقتان على لجم الاندفاعة التركية في سورية لأسباب تتجاوز المسألة الكردية، إنها متعلقة بعدم رغبة العاصمتين بمنح تركيا أراضي واسعة ووجودا عسكريا يهدّد مخططاتهما، خصوصا أن الرؤية الاستراتيجية التركية تتباعد عن الرؤيتين الأميركية والروسية، وإن بدتا متحالفتين في الظاهر.
وقد كشفت زيارة وزير الخارجية الأميركي، أخيرا، إلى أنقرة حدود التباين بين الطرفين في الشمال السوري، كما كشف التوجه الروسي سابقا نحو عفرين، وتسليم مناطق سيطرة الأكراد لقوات النظام، غياب الثقة بين روسيا وتركيا.
قد تنجح أنقرة عبر دبلوماسية الخطوة خطوة في إنجاز تفاهم سياسي مع موسكو وواشنطن حول الشمال السوري، لكن مثل هذا التفاهم لا يلبي سوى الحدود الدنيا من مطالب الأتراك. وأمام فقدان أنقرة أوراق ضغط على العاصمتين، بدأ صناع القرار في تركيا باعتماد سياسة الاختراق من الخلف، ويمكن تلخيصها على النحو التالي:
أولا: تشكيل تحالف يجمع قوى عربية فاعلة على الأرض لمواجهة هيمنة الوحدات الكردية، وقد بدأت أنقرة هذه الخطوة منذ منتصف شهر مارس/ آذار الماضي، حين جمعت في مدينة أورفة التركية قرابة خمسين عشيرة ممتدة بين الرقة والحسكة، لتشكيل جسم عشائري، ومن ثم عسكري. وليس معروفا مدى النجاح التركي في استقطاب هذه العشائر في ظل حالة التذرر التي ضربت مجمل العشائر السورية، بين مؤيد للنظام وآخر معاد له، وبين من هو متحالف مع الوحدات الكردية ومن يبحث عن مساراته الخاصة.
وإذا ما فشلت هذه العشائر لأسباب متعددة في تشكيل جسم عسكري، فإنهم، بحكم ثقلهم الديمغرافي والاجتماعي، قادرون على التخفيف من هيمنة الوحدات الكردية على محافظة الرّقة، خصوصا عقب محاولة "الاتحاد الديمقراطي" تسليم مناطق في الرقة إلى مجلس الرقة المدني الذي يتبع الإدارة الذاتية. وهنا تلعب أنقرة على إمكانية قبول الأميركان بتقاسم الأجهزة السياسية والأمنية بين مختلف المكونات، ولأجل ذلك تعد هذه العشائر لتلك اللحظة.
ثانيا: تشكيل قطب كردي يكون ندا لـ"الاتحاد الديمقراطي الكردي" وأذرعه العسكرية، والمجلس الوطني الكردي في سورية المعروف بـ"بيشمركة روج" هو أفضل من يمثل هذا الهدف. وتتم هذه العملية بالتوافق مع أربيل، خصوصا أن رئيس إقليم كردستان العراق، مسعود البرزاني، أرسل أكرادا سوريين إلى سنجار، للاشتباك مع وحدات المقاومة التي يُدربها حزب العمال الكردستاني، لكن مشكلة هذا الخيار متعلقة بمدى قدرة أربيل على المضي في المشروع التركي، خصوصا أن البرزاني لا يستطيع تجاوز الولايات المتحدة، كما أن "بيشمركة روج أوفا" لا تمتلك العدد والسلاح الكافي لمواجهة الوحدات الكردية في سورية.
ثالثا: غض الطرف عن فصائل عسكرية تابعة للجيش الحر، للقيام بعمليات عسكرية منفردة ضد "قوات سورية الديمقراطية"، فمثل هذه العمليات ستكون خارج التفاهمات الإقليمية الدولية، ما يسمح لأنقرة بهامش من التحرك والضغط، وقد لمحت أنقرة إلى ذلك.
وفي حال فشلت سياسة الاختراق من الخلف، لن يكون أمام أنقرة سوى خيارين: اختراق الحدود السورية عسكريا نحو تل أبيض، شمالي الرقة، وإقامة إسفين جغرافي بين شرق الفرات وغربه، لكن هذه الخطوة ستضع نهاية للتفاهمات التركية مع روسيا والولايات المتحدة، وقد تكون كلفتها كبيرة على أنقرة. الاكتفاء بالواقع الحالي وما حققته "درع الفرات"، والعمل على تحقيق إنجازات اقتصادية في مناطق سيطرتها، وقد لمح الوزير تيلرسون في أنقرة إلى أن واشنطن قد تساهم في إعمار منطقة "درع الفرات". ومن شأن إعادة الإعمار وتقديم إنجازات خدمية وتشكيل هيكل سياسي مستقر أن يمنح أنقرة وجودا مستداما في المنطقة، ويثبت إنجازاتها العسكرية في بيئة قابلة للتغيير بشكل سريع.
(إعلامي وكاتب سوري)
صحيح أن "درع الفرات" حققت هدفها في دحر تنظيم الدولة الإسلامية من الحدود التركية، لكنها لم تحقق أهدافها كاملة في ما يتعلق بـ"وحدات حماية الشعب الكردي"، فمنطقة "درع الفرات"، من جرابلس، شمالي شرق حلب، إلى أعزاز في الشمال الغربي، إلى مدينة الباب في الجنوب، استطاعت تحقيق فصل جغرافي بين عفرين في الغرب، ومنبج وعين العرب ـ كوباني في الشرق، أي أنها نجحت في شطر مناطق سيطرة الوحدات الكردية شرق الفرات، لكنها فشلت في فصل مناطق الهيمنة الكردية بين شرق الفرات وغربه، إذ لم تستطع تركيا إجبار الوحدات الكردية على مغادرة منبج أو عين العرب ـ كوباني وعبور النهر نحو الشرق.
موسكو وواشنطن متفقتان على لجم الاندفاعة التركية في سورية لأسباب تتجاوز المسألة الكردية، إنها متعلقة بعدم رغبة العاصمتين بمنح تركيا أراضي واسعة ووجودا عسكريا يهدّد مخططاتهما، خصوصا أن الرؤية الاستراتيجية التركية تتباعد عن الرؤيتين الأميركية والروسية، وإن بدتا متحالفتين في الظاهر.
وقد كشفت زيارة وزير الخارجية الأميركي، أخيرا، إلى أنقرة حدود التباين بين الطرفين في الشمال السوري، كما كشف التوجه الروسي سابقا نحو عفرين، وتسليم مناطق سيطرة الأكراد لقوات النظام، غياب الثقة بين روسيا وتركيا.
قد تنجح أنقرة عبر دبلوماسية الخطوة خطوة في إنجاز تفاهم سياسي مع موسكو وواشنطن حول الشمال السوري، لكن مثل هذا التفاهم لا يلبي سوى الحدود الدنيا من مطالب الأتراك. وأمام فقدان أنقرة أوراق ضغط على العاصمتين، بدأ صناع القرار في تركيا باعتماد سياسة الاختراق من الخلف، ويمكن تلخيصها على النحو التالي:
أولا: تشكيل تحالف يجمع قوى عربية فاعلة على الأرض لمواجهة هيمنة الوحدات الكردية، وقد بدأت أنقرة هذه الخطوة منذ منتصف شهر مارس/ آذار الماضي، حين جمعت في مدينة أورفة التركية قرابة خمسين عشيرة ممتدة بين الرقة والحسكة، لتشكيل جسم عشائري، ومن ثم عسكري. وليس معروفا مدى النجاح التركي في استقطاب هذه العشائر في ظل حالة التذرر التي ضربت مجمل العشائر السورية، بين مؤيد للنظام وآخر معاد له، وبين من هو متحالف مع الوحدات الكردية ومن يبحث عن مساراته الخاصة.
وإذا ما فشلت هذه العشائر لأسباب متعددة في تشكيل جسم عسكري، فإنهم، بحكم ثقلهم الديمغرافي والاجتماعي، قادرون على التخفيف من هيمنة الوحدات الكردية على محافظة الرّقة، خصوصا عقب محاولة "الاتحاد الديمقراطي" تسليم مناطق في الرقة إلى مجلس الرقة المدني الذي يتبع الإدارة الذاتية. وهنا تلعب أنقرة على إمكانية قبول الأميركان بتقاسم الأجهزة السياسية والأمنية بين مختلف المكونات، ولأجل ذلك تعد هذه العشائر لتلك اللحظة.
ثانيا: تشكيل قطب كردي يكون ندا لـ"الاتحاد الديمقراطي الكردي" وأذرعه العسكرية، والمجلس الوطني الكردي في سورية المعروف بـ"بيشمركة روج" هو أفضل من يمثل هذا الهدف. وتتم هذه العملية بالتوافق مع أربيل، خصوصا أن رئيس إقليم كردستان العراق، مسعود البرزاني، أرسل أكرادا سوريين إلى سنجار، للاشتباك مع وحدات المقاومة التي يُدربها حزب العمال الكردستاني، لكن مشكلة هذا الخيار متعلقة بمدى قدرة أربيل على المضي في المشروع التركي، خصوصا أن البرزاني لا يستطيع تجاوز الولايات المتحدة، كما أن "بيشمركة روج أوفا" لا تمتلك العدد والسلاح الكافي لمواجهة الوحدات الكردية في سورية.
ثالثا: غض الطرف عن فصائل عسكرية تابعة للجيش الحر، للقيام بعمليات عسكرية منفردة ضد "قوات سورية الديمقراطية"، فمثل هذه العمليات ستكون خارج التفاهمات الإقليمية الدولية، ما يسمح لأنقرة بهامش من التحرك والضغط، وقد لمحت أنقرة إلى ذلك.
وفي حال فشلت سياسة الاختراق من الخلف، لن يكون أمام أنقرة سوى خيارين: اختراق الحدود السورية عسكريا نحو تل أبيض، شمالي الرقة، وإقامة إسفين جغرافي بين شرق الفرات وغربه، لكن هذه الخطوة ستضع نهاية للتفاهمات التركية مع روسيا والولايات المتحدة، وقد تكون كلفتها كبيرة على أنقرة. الاكتفاء بالواقع الحالي وما حققته "درع الفرات"، والعمل على تحقيق إنجازات اقتصادية في مناطق سيطرتها، وقد لمح الوزير تيلرسون في أنقرة إلى أن واشنطن قد تساهم في إعمار منطقة "درع الفرات". ومن شأن إعادة الإعمار وتقديم إنجازات خدمية وتشكيل هيكل سياسي مستقر أن يمنح أنقرة وجودا مستداما في المنطقة، ويثبت إنجازاتها العسكرية في بيئة قابلة للتغيير بشكل سريع.
(إعلامي وكاتب سوري)