16 فبراير 2020
تركيا الخائفة
تضج ساحة تقسيم وشارع الاستقلال وسط إسطنبول بالسياح العرب والأجانب، وتعج، أيضاً، بعناصر وسيارات الدرك التركي، وبمسلحين لا يرتدون زياً رسمياً ينظرون إلى المارة نظرة شك لا تخطئها العين. لا يعبأ السياح بالإجراءات الأمنية في الشوارع الرئيسية والمولات، لكنها تقض مضاجع الأتراك ممن اعتادوا العيش بأمان، ورخاء نسبيّ في السنوات الماضية. تقلب صفحات الصحف التركية لترى في صورها ما يبرر هذا الخوف؛ إرهابيون يطلقون النار على قصر تاريخي، نعوش جنود أتراك قضوا في المواجهة ضد حزب العمال الكردستاني، تصريحات قادة في تنظيم داعش، تتوعد تركيا بتفجيرات ومفخخات، حملات أمنية تنفذها الشرطة ضد منظمات يسارية متطرفة... إلخ. عدا عن الهواجس الأمنية المباشرة، يخشى الناس على اقتصادهم وحياتهم، وهم يرون ليرتهم تواصل انخفاضها أمام الدولار، ويسمعون، يومياً، إشاعات عن رفع سعر الفائدة في المصارف، بغية تشجيعهم على إيداع أموالهم وإيقاف السحب، ويتخوفون كذلك من حرب طويلة في المناطق الكردية، جنوب شرق البلاد، تستنزف مواردهم، لاسيما بعد تواتر أنباء تفيد بخروج قرى نائية عن سيطرة الدولة بشكل كامل، ونزوع بعض المنظمات الكردية لتطبيق تجربة الإدارة الذاتية فيها، على غرار ما جرى في مناطق شمال، وشمال شرق سورية التي يسيطر عليها حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي.
في هذا الوضع المضطرب، تبقى الانتخابات المبكرة المتوقعة الشغل الشاغل للمواطن التركي، على ما يقول باحثون وصحافيون أتراك. فبخلاف سابقتها، أضحت حديثاً يومياً يرافق الأتراك في العمل، والمنزل، وجلسات الشاي المسائية، بل حتى سهرة نهاية الأسبوع الصاخبة. خلال الأسابيع المنصرمة، حصلت تغيرات جمة في المشهد السياسي التركي، على المستويين الداخلي والخارجي. الانتعاش القومي الكردي إثر نجاح حزب الشعوب الديمقراطي في تخطي عتبة الـ 10% ودخوله البرلمان تعرّض لهزة عنيفة، إثر التفاهم الأميركي – التركي على إقامة منطقة خالية من داعش في شمال سورية، وبدء الضربات الجوية والعلميات العسكرية ضد مسلحي الكردستاني في جبال قنديل. يحاول موظف الاستقبال (كردي الانتماء) إقناعي بوجود صفقة "مريبة" بين الرئيسين، التركي رجب طيب أردوغان والأميركي باراك أوباما، للقضاء على صلاح ديمرتاس، وعن أن أكراد تركيا يجمعون، اليوم، كما لم يحصل سابقاً، على التصويت لحزب الشعوب الديمقراطي لإيصاله مجدداً إلى قبة البرلمان، وإفشال ما يسميه "مخططات أردوغان"، لكي يصبح أتاتورك جديداً. ويستعد حزب الشعب الجمهوري، وزعيمه كليجدار أوغلو، المتشوق لملامسة كراسي الوزارة بعد غياب طويل، جيداً لمعترك الانتخابات المبكرة، ويسعى إلى تحالف انتخابي مع الأكراد، بشعارات تستهدف شخصية أردوغان، وليس حزب العدالة والتنمية، في محاولة جذب شرائح واسعة من الشعب التركي، لا تحبذ تحويل النظام السياسي من برلماني إلى رئاسي. أما "العدالة والتنمية" فيبدو في وضع لا يحسد عليه، إذ لا تتوافر مؤشرات حقيقية، بحسب استطلاعات الرأي، تفيد بقدرته على الفوز في الانتخابات المقبلة، بنسبة تمكّنه من تشكيل الحكومة منفرداً، ويبدو جمهوره منقسماً حول قضايا تخص الحزب نفسه، وسياساته الداخلية والخارجية.
لا ترى شريحة مهمة، ضمن قاعدة الحزب وأنصاره، في مسعى محبوبهم "أبو بلال" بتغير شكل النظام في تركيا أولويةً، أو هدفاً ملحاً، خصوصاً وأن الحزب نجح، خلال السنوات الماضية، في أن يكون رقماً مهماً، ضمن آليات النظام السياسي المنصوص عليها في الدستور الحالي. ولا يخفي كثيرون نقدهم الرئيس أردوغان، في قضايا عدة، في مقدمتها اختيار أحمد داود أوغلو رئيساً للحزب والوزراء، مع أنه لا يمتلك كاريزما قيادية وقدرة خطابية قادرة على شد الجمهور وجذب الأصوات، وإبعاده شخصيات ذات ثقل كبير، مثل الرئيس السابق، عبدالله غول، وعلي بابا جان، بحجة أن النظام الداخلي للحزب لا يسمح للنائب بالترشح للنيابة البرلمانية أكثر من دورات انتخابية. وبناء عليه، يواجه "العدالة والتنمية"، على ما ينقل باحثون وصحافيون أتراك قريبون من خط الحزب، تحديات لا تقتصر على أحزاب المعارضة التي راكمت خبراتها خلال السنوات الطويلة، وتسعى إلى كسر انفراده بالسلطة في حكم تركيا، بل تمتد إلى شرائح أخرى، لعل أبرزها النخب العلمية والأكاديمية وجيل الشباب الجديد. نجح الحزب في اختراق مختلف مؤسسات الدولة، لكنه عجز عن كسر احتكار النخبة العلمانية للتعليم العالي والجامعات، وهيمنتها على الحياة الثقافية في البلاد، ما ساهم في تحولها إلى خصم بارز للحزب ولأردوغان، خصوصاً بعد أن هجرت نقاشاتها التقليدية (الأتاتوركية، الاستقطاب العلماني الإسلامي) وبدأت تستحضر هموم الشارع وأحاديثه ومخاوفه. كما أن دعاية الحزب عن النهضة الاقتصادية التي أحدثها، في سنوات حكمه، لم تعد دعاية جاذبة لجيل انتخابي جديد، قوامه شباب ترعرع في اقتصاد قوي ومنتعش، ولم يشهد أزمات التضخم والركود. لذلك، لا يرى في الإنجازات الاقتصادية القائمة حافزاً يدفعه إلى قبول قضايا سياسية، لا يحبذها.
المخاوف من دخول تركيا مرحلة جديدة من عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي لا تنحصر في مواطنيها، بل تؤرق جاليات عربية مليونية، تقيم في تركيا، وخصوصاً السوريين والمصريين، وأخيراً الليبيين واليمنيين. فنتائج الانتخابات الأخيرة دقت ناقوس خطر، دفعت آلاف السوريين المقيمين في تركيا إلى الهجرة إلى الدول الأوروبية، بحثاً عن استقرار سياسي وأمني. فاللجوء السوري (وأعباؤه) أضحى مادة دسمة لأحزاب المعارضة، لانتقاد الحزب الحاكم، مستغلين مظاهر سلبية، مثل التسول وارتفاع معدل الجريمة والتفجيرات، لاسيما في الولايات الجنوبية. فمثلاً، لا يتورع نواب الشعب الجمهوري ورئيسه عن الدعوة إلى وقف اللجوء السوري وإعادة اللاجئين، والتحالف مع الأسد لمواجهة الإرهاب. في حين حل الزعيم الكردي الشاب، صلاح ديمرتاش، ضيفاً دائماً على تلفزيونات الممانعة، يتغنى بمقاومة حزب الله وإيران، ويبرر تدخلهما في سورية، لمواجهة الإمبريالية العالمية المتحالف معها. أما حزب الحركة القومية، فلا يعنيه إلا الحرب على حزب العمال الكردستاني، وبدأ، أخيراً، بدعم كتائب تركمانية في الشمال وجبال الساحل وتمويلها، لتكون ذراعه في الحرب السورية. ولا تختلف هواجس السوريين عن المصريين المعارضين الذين يتداولون، يومياً، أخباراً عن إغلاق مؤسسات إعلامية وسياسية معارضة.
تأسيساً على ما سبق، لا يتمنى مواطن عربي عانى جور الأنظمة، وعاش حياة اللجوء، إلا فوز "العدالة والتنمية" في الانتخابات المقبلة، من دون أن يعني ذلك عدم الالتفات إلى مشاغل الشارع التركي وهمومه وتطلعاته لديمقراطية مستقرة، تحدث قطيعة تامة مع عقود الانقلابات والاضطرابات التي عاشتها تركيا قبل عام 2002.
في هذا الوضع المضطرب، تبقى الانتخابات المبكرة المتوقعة الشغل الشاغل للمواطن التركي، على ما يقول باحثون وصحافيون أتراك. فبخلاف سابقتها، أضحت حديثاً يومياً يرافق الأتراك في العمل، والمنزل، وجلسات الشاي المسائية، بل حتى سهرة نهاية الأسبوع الصاخبة. خلال الأسابيع المنصرمة، حصلت تغيرات جمة في المشهد السياسي التركي، على المستويين الداخلي والخارجي. الانتعاش القومي الكردي إثر نجاح حزب الشعوب الديمقراطي في تخطي عتبة الـ 10% ودخوله البرلمان تعرّض لهزة عنيفة، إثر التفاهم الأميركي – التركي على إقامة منطقة خالية من داعش في شمال سورية، وبدء الضربات الجوية والعلميات العسكرية ضد مسلحي الكردستاني في جبال قنديل. يحاول موظف الاستقبال (كردي الانتماء) إقناعي بوجود صفقة "مريبة" بين الرئيسين، التركي رجب طيب أردوغان والأميركي باراك أوباما، للقضاء على صلاح ديمرتاس، وعن أن أكراد تركيا يجمعون، اليوم، كما لم يحصل سابقاً، على التصويت لحزب الشعوب الديمقراطي لإيصاله مجدداً إلى قبة البرلمان، وإفشال ما يسميه "مخططات أردوغان"، لكي يصبح أتاتورك جديداً. ويستعد حزب الشعب الجمهوري، وزعيمه كليجدار أوغلو، المتشوق لملامسة كراسي الوزارة بعد غياب طويل، جيداً لمعترك الانتخابات المبكرة، ويسعى إلى تحالف انتخابي مع الأكراد، بشعارات تستهدف شخصية أردوغان، وليس حزب العدالة والتنمية، في محاولة جذب شرائح واسعة من الشعب التركي، لا تحبذ تحويل النظام السياسي من برلماني إلى رئاسي. أما "العدالة والتنمية" فيبدو في وضع لا يحسد عليه، إذ لا تتوافر مؤشرات حقيقية، بحسب استطلاعات الرأي، تفيد بقدرته على الفوز في الانتخابات المقبلة، بنسبة تمكّنه من تشكيل الحكومة منفرداً، ويبدو جمهوره منقسماً حول قضايا تخص الحزب نفسه، وسياساته الداخلية والخارجية.
لا ترى شريحة مهمة، ضمن قاعدة الحزب وأنصاره، في مسعى محبوبهم "أبو بلال" بتغير شكل النظام في تركيا أولويةً، أو هدفاً ملحاً، خصوصاً وأن الحزب نجح، خلال السنوات الماضية، في أن يكون رقماً مهماً، ضمن آليات النظام السياسي المنصوص عليها في الدستور الحالي. ولا يخفي كثيرون نقدهم الرئيس أردوغان، في قضايا عدة، في مقدمتها اختيار أحمد داود أوغلو رئيساً للحزب والوزراء، مع أنه لا يمتلك كاريزما قيادية وقدرة خطابية قادرة على شد الجمهور وجذب الأصوات، وإبعاده شخصيات ذات ثقل كبير، مثل الرئيس السابق، عبدالله غول، وعلي بابا جان، بحجة أن النظام الداخلي للحزب لا يسمح للنائب بالترشح للنيابة البرلمانية أكثر من دورات انتخابية. وبناء عليه، يواجه "العدالة والتنمية"، على ما ينقل باحثون وصحافيون أتراك قريبون من خط الحزب، تحديات لا تقتصر على أحزاب المعارضة التي راكمت خبراتها خلال السنوات الطويلة، وتسعى إلى كسر انفراده بالسلطة في حكم تركيا، بل تمتد إلى شرائح أخرى، لعل أبرزها النخب العلمية والأكاديمية وجيل الشباب الجديد. نجح الحزب في اختراق مختلف مؤسسات الدولة، لكنه عجز عن كسر احتكار النخبة العلمانية للتعليم العالي والجامعات، وهيمنتها على الحياة الثقافية في البلاد، ما ساهم في تحولها إلى خصم بارز للحزب ولأردوغان، خصوصاً بعد أن هجرت نقاشاتها التقليدية (الأتاتوركية، الاستقطاب العلماني الإسلامي) وبدأت تستحضر هموم الشارع وأحاديثه ومخاوفه. كما أن دعاية الحزب عن النهضة الاقتصادية التي أحدثها، في سنوات حكمه، لم تعد دعاية جاذبة لجيل انتخابي جديد، قوامه شباب ترعرع في اقتصاد قوي ومنتعش، ولم يشهد أزمات التضخم والركود. لذلك، لا يرى في الإنجازات الاقتصادية القائمة حافزاً يدفعه إلى قبول قضايا سياسية، لا يحبذها.
المخاوف من دخول تركيا مرحلة جديدة من عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي لا تنحصر في مواطنيها، بل تؤرق جاليات عربية مليونية، تقيم في تركيا، وخصوصاً السوريين والمصريين، وأخيراً الليبيين واليمنيين. فنتائج الانتخابات الأخيرة دقت ناقوس خطر، دفعت آلاف السوريين المقيمين في تركيا إلى الهجرة إلى الدول الأوروبية، بحثاً عن استقرار سياسي وأمني. فاللجوء السوري (وأعباؤه) أضحى مادة دسمة لأحزاب المعارضة، لانتقاد الحزب الحاكم، مستغلين مظاهر سلبية، مثل التسول وارتفاع معدل الجريمة والتفجيرات، لاسيما في الولايات الجنوبية. فمثلاً، لا يتورع نواب الشعب الجمهوري ورئيسه عن الدعوة إلى وقف اللجوء السوري وإعادة اللاجئين، والتحالف مع الأسد لمواجهة الإرهاب. في حين حل الزعيم الكردي الشاب، صلاح ديمرتاش، ضيفاً دائماً على تلفزيونات الممانعة، يتغنى بمقاومة حزب الله وإيران، ويبرر تدخلهما في سورية، لمواجهة الإمبريالية العالمية المتحالف معها. أما حزب الحركة القومية، فلا يعنيه إلا الحرب على حزب العمال الكردستاني، وبدأ، أخيراً، بدعم كتائب تركمانية في الشمال وجبال الساحل وتمويلها، لتكون ذراعه في الحرب السورية. ولا تختلف هواجس السوريين عن المصريين المعارضين الذين يتداولون، يومياً، أخباراً عن إغلاق مؤسسات إعلامية وسياسية معارضة.
تأسيساً على ما سبق، لا يتمنى مواطن عربي عانى جور الأنظمة، وعاش حياة اللجوء، إلا فوز "العدالة والتنمية" في الانتخابات المقبلة، من دون أن يعني ذلك عدم الالتفات إلى مشاغل الشارع التركي وهمومه وتطلعاته لديمقراطية مستقرة، تحدث قطيعة تامة مع عقود الانقلابات والاضطرابات التي عاشتها تركيا قبل عام 2002.