قبل نهاية الأسبوع الأول من رئاسته، ضرب الرئيس الأميركي دونالد ترامب الرقم القياسي في فتح الجبهات المتعددة، والتي تلخّص توجهاته الآيلة إلى وضع أميركا على سكّة متصادمة مع كثر، داخلياً وخارجياً، تحت شعار "أميركا أولاً". سلسلة القرارات الرئاسية التي أصدرها كانت كافية لتسويغ، بل لترسيخ المخاوف من مغامرات غير محسوبة، وخلافه المبكر مع المكسيك، مهّد لاحتمال اندلاع حرب تجارية دولية. كذلك باشر باستهداف الأقليات، تحديداً الأميركيين من أصول لاتينية وإسلامية. والمزيد منها على الطريق، باتجاه جعل الولايات المتحدة أقرب إلى حصن مزنّر بالحمائية ـ الشوفينية المعزولة. جنوح ترامب خض الساحة الداخلية، مثيراً عاصفة من التحذيرات والاعتراضات في مختلف الأوساط ومن بينها رموز من عتاة المحافظين، فضلاً عن اعتراضات داخل الكونغرس، لا بفريقه الديمقراطي فحسب، بل أيضاً ببعض أقطابه الجمهوريين.
تبدو المخاوف عامة، لناحية أن إجراءات الرئيس الجديد تتسم بالاستعداء. الجميع بالنسبة له مشتبه به وموضع ريبة وشك. وحدها روسيا سالمة من ظنونه. الأمر الذي عزز الشكوك حول علاقتهما، ما جعل قيادات في مجلس الشيوخ تبدي استعدادها لفتح معركة معه إذا رفع العقوبات عن موسكو، كما أوحت مستشارة الرئيس كيليان كونواي. مع العلم أنه هناك في الكونغرس مشروعاً لفرض حزمة عقوبات جديدة على موسكو. وقد تردد أن رئيسة الحكومة البريطانية تيريزا ماي حذّرت ترامب من بوتين، خلال محادثاتها معه في البيت الأبيض.
عدا العلاقة مع روسيا اصطدم ترامب مع المكسيك، الجار الجنوبي والشريك التجاري الثالث للولايات المتحدة بسبب جداره الحدودي. وهو اشتباك تسبّب بنسف زيارة كان من المقرر أن يقوم بها الرئيس المكسيكي انريكي بينيا نيتو لواشنطن، يوم الثلاثاء المقبل. طريقة الإملاء المسبق التي خاطب بها ترامب زائره قبل وصوله بخصوص تحميله كلفة الجدار، كانت فاضحة. ويبدو أن ترامب لم يتشاور بشأن الجدار مع المكسيك غير الموافقة عليه أصلاً.
وختم الرئيس نهاره يوم الجمعة بقرار آخر مثير للجدل والتوتر، أوقف بموجبه قبول اللاجئين من ست دول عربية وإيران. واضح أنه استهدف اللاجئين المسلمين. خطوته قابلتها اعتراضات وتخوفات من العواقب. لكنه ليس فقط متمسكاً بها بل أيضاً ترك الباب مفتوحاً لضم بلدان أخرى بالتدريج إلى اللائحة.
هذا النهج الانعزالي الذي دشنه ترامب قبل أيام بالانسحاب من اتفاقية الحوض الباسيفيكي للتجارة الحرة، على أن يتبعه انسحاب من اتفاقية مماثلة لشمال أميركا، تضمّ الولايات المتحدة وكندا والمكسيك، فتح الجدل حول مخاطر هذا التوجه في عالم تعولم فيه الاقتصاد الدولي.
مؤيدو مثل هذه الاتفاقيات، ومعظمهم من الجمهوريين، يرون في انغلاق ترامب، الاقتصادي والدفاعي، مغادرة خطيرة لمذهب الرئيس هاري ترومان، والذي قام على "حرية التجارة ومبدأ الدفاع المشترك"، والذي عاد "بمنافع جمة على أميركا والغرب". المناوئون يرون أن العولمة تسببت بنزيف اقتصادي لأميركا تمثل بعجز تجاري متواصل وتنامي البطالة. بالتالي لا تصحح إلا بالعودة إلى حماية الاقتصاد الوطني والاقتصار على عقد اتفاقيات تجارية ثنائية تحقق للطرف الأقوى شروطاً أفضل.
وسبق للرئيس رونالد ريغان أن طبّق "الحمائية" في ولايتيه (1981 ـ 1989)، حين اتهم اليابان بإغراق الولايات المتحدة بالبضائع رخيصة الثمن، فقرر رفع قيمة الرسوم الجمركية على الدراجات النارية اليابانية لتبلغ 45 في المائة في محاولة لحماية الشركة الأميركية الأصل. كذلك فرض رسوماً جمركية بنسبة 100 في المائة على أجهزة التلفزيون والكمبيوتر يابانية الصنع. ريغان كان جمهورياً أيضاً.
بصرف النظر عن المفاضلة بين النموذجين، المعضلة في الوضع الأميركي أن نظامه الاقتصادي المالي قد تغوّل. بحاجة إلى إصلاحات عميقة. لكن التركيبة السياسية القائمة عاجزة عن ذلك. هي صارت جزءاً منه. الآن يأتي ترامب ويدّعي أن المخرج يكمن في نموذجه الاقتصادي والأمني المنغلق. لكن الناقدين يحذّرون من التداعيات. خصوصاً أن الرئيس يعد بموازنة عسكرية أكبر مع خفض ضريبي أوسع مع نفض البنية التحتية برمتها. معادلة لا تستقيم، يقول الخبراء. وهنا يكمن خطر الحمائية، والتي إذا عجزت عن تلبية متطلبات هذه الخطط والوعود الهائلة، عندئذ يصبح تصدير الأزمة إلى الخارج هو المخرج الإجباري. وقد حذّر آخر رئيس سوفييتي، ميخائيل غورباتشوف، في مقاله الأخير في مجلة "تايم"، من "توجّه العالم نحو الحروب في ظل عسكرة السياسة". شيء من هذه العسكرة يحصل اليوم في أميركا، وسط إيغال في الشوفينية والفئوية. خليط يحمل على الخشية.