تراكمات كمّية تؤدي إلى تغيرات نوعية... القضية الفلسطينية مثالاً

25 اغسطس 2020
+ الخط -

انحسار المشروع القومي العربي الذي نتلمس نتائجه الواضحة في يومنا الراهن هو حصيلة تراكمية لجملة أحداثٍ كبرى شهدتها منطقتنا، وسلسلة متواصلة من الممارسات والإجراءات القمعية التي اعتمدتها أنظمة الحكم العربية، خصوصا الجمهورية العسكرية منها، وهي الأنظمة التي كانت ترفع شعارات قومية اشتراكية لتغطية انقضاضها على الداخل الوطني، بذريعة تسخير كل شيء لمعركة تحرير فلسطين، وبحجة تمهيد الأرضية للوحدة العربية الكبرى التي كانت تسوّق بوصفها الهدف الاستراتيجي الأول الذي سيساعد على حل جميع المشكلات. ومن أبرز تلك الأحداث حروب 1948 و1967؛ وسبتمبر/ أيلول 1970؛ والاجتياح الإسرائيلي بيروت؛ وإخراج منظمة التحرير منها 1982. هذا إلى جانب غزو صدّام حسين الكويت عام 1990؛ وإخراجه منها بالقوة من تحالف دولي شاركت فيه عدة دول عربية عام 1991؛ ثم سقوط النظام العراقي عام 2003، فقد بينت كل هذه الحروب وغيرها، كالحرب المصرية السعودية في اليمن 1962-1967/ 1970، والحرب الأهلية اللبنانية 1975-1990، والحرب بين شمال السودان وجنوبه، الأولى 1955-1972 والثانية 1983-2005، والحرب المغاربية حول الصحراء الغربية 1975-1991؛ لقد أثبتت هذه الحروب والنزاعات إخفاق المشروع القومي، بصيغتيه الناصرية والبعثية. أما المشروع الأممي الذي كانت أحزاب شيوعية ويسارية في الدول العربية تبشّر به، وتدعو إليه، فقد مثّل حالا طارئة بالنسبة إلى منطقتنا، تجسّد في ارتباط الأحزاب الشيوعية في الدول العربية بالاتحاد السوفييتي ارتباطاً عضوياً، ولذلك تلاشى مفعولها مع انهيار الأخير.
أما المشروع الإسلامي، فقد وجد أصحابه أن اتخاذ الدين أيديولوجية سياسية هو الوسيلة الأكثر نجاعة لتحشيد الناس في مواجهة مشاريع الأنظمة العسكرية التي سيطرت على مجتمعاتٍ هشّة، كانت، وما زالت، تفتقر إلى التنظيمات السياسية الناضجة القوية، ولم تكن تمتلك منظماتٍ مجتمعيةً، كان من شأنها تشكيل رأي عام ضاغط، كما أن الأنظمة ذاتها لجأت إلى خلخلة البنى المجتمعية ضمن الكيانات التي تسلّطت عليها، عبر إجراءات التأميم "والإصلاح الزراعي" التي كان ضررها أكبر من نفعها، نتيجة غياب مشاريع وطنية اقتصادية متكاملة، بل كانت الإجراءات المعنية، في غالب الأحيان، وسيلة لإبعاد الخصوم المحتملين.

وجد أصحاب المشروع الإسلامي أن اتخاذ الدين أيديولوجية سياسية هو الوسيلة الأكثر نجاعة لتحشيد الناس في مواجهة مشاريع الأنظمة العسكرية

ومع إخفاق المشروع القومي العربي، كان من الطبيعي أن يتراجع الاهتمام بالقضية الفلسطينية، فالمشروع الناصري فَقَدَ ألَقَه بسرعة البرق بعد هزيمة 1967، وباتت مختلف أطروحاته موضوعاً للتندر بين الناس. أما المشروع البعثي فانقسم على ذاته في كل من سورية والعراق، وحاول كل طرفٍ استغلال بعض الفلسطينيين ضد بعضهم الآخر. وجاءت الضربة القاصمة التي وجهها نظام حافظ الأسد إلى منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات بعد معركة طرابلس 1983. وبعد طرابلس قرّر عرفات الانتقال إلى الضفة الأخرى، ليصبح حليفاً لنظام صدّام حسين.
وقد استغل نظام الخميني هذا التراجع ليسوّق نفسه بوصفه المجاهد الأكبر في سبيل تحرير القدس. وتمكّن من استقطاب تيارات إسلامية عديدة في الساحة العربية، كما تمكّن من الاستحواذ على ورقة المرجعية الشيعية الأكثر قوةً، نتيجة إخفاق الدول العربية في التعامل الوطني مع المكون الشيعي، الأمر الذي سهّل الجهود الإيرانية التي اتخذت بداية أسلوب القوة الناعمة، ومن ثم تحوّلت إلى قوة عسكرية مليشياوية تقاتل على جبهات عدة (في لبنان والعراق وسورية واليمن وغيرها)، وذلك بهدف تفتيت المجتمعات العربية وتفجيرها من الداخل. وكان لوقوف القيادة الفلسطينية، برئاسة ياسر عرفات، إلى جانب صدّام الدور الأهم في حرمان الفلسطينيين من الدعم الخليجي، وهو الدعم الذي كان قد بلغ ذروته باستخدام النفط سلاحاً في عهد ملك السعودية الراحل فيصل عام 1973.

استغل نظام الخميني التراجع العربي ليسوّق نفسه بوصفه المجاهد الأكبر في سبيل تحرير القدس

وجاءت المبادرة العربية عام 2002، الأرض مقابل السلام، وتعاملت مع ملف الصراع العربي - الإسرائيلي، وبصورة أدق مع القضية الفلسطينية، بواقعيةٍ تستوعب الشروط والمعادلات الدولية، وتفاعلاتها الإقليمية، ولكنها لم تجد طريقها إلى النور. وبعد سقوط نظام صدّام حسين، ووفاة ياسر عرفات، تزايدت الانقسامات الفلسطينية، خصوصا بين حركتي فتح وحماس، والفصائل التي ارتبطت مع النظام السوري الأسدي. وبات من الواضح أن الموقف العربي يعاني من اضطرابٍ بنيويٍّ، تمثل في عدم وجود استراتيجية متكاملة، كان من شأنها الضغط باتجاه الوصول إلى حل عادل للقضية الفلسطينية، يراعي القرارات الأممية والمصالح الدولية والإقليمية على قاعدة احترام الحقوق وتعزيز السلام.
ومع انطلاقة ثورات الربيع العربي، تجاهلت الأنظمة العربية أسباب ما يجري وأبعاده، بل اعتبرتها تهديداً لمستقبلها، وحتى وجودها؛ لذلك لجأت إلى اسلوب احتوائها، ودعمت، في أحيانٍ كثيرة، الثورات المضادة، وتعارضت الحسابات والمصالح بين الدول العربية، خصوصا الخليجية منها. وبدأت الخلافات تدبّ بينها في معظم الملفات العربية، سواء في اليمن ومصر وليبيا وسورية، وحتى لبنان والعراق والجزائر وتونس والسودان. 
وقد ألقى كل ما تقدم ذكره بظلاله على موضوع القضية الفلسطينية، وباتت الشعوب في كل دولة عربية تتطلع نحو خلاصها، بعد أن فقدت الثقة بالمشاريع العابرة للحدود التي لم تجلب لها سوى الفقر والبؤس والاستبداد؛ لأنها كانت في الأساس مشاريع تعتمدها أنظمة كان كل همها التحكم بمصير البلدان وأهلها. وكانت الصراعات بين أجنحة الحكم المختلفة في تلك البلدان ظاهرةً مستمرةً مألوفة، حتى تأكد الناس، بالأدلة القاطعة، بأن كل ما جرى، ويجري، من حديثٍ عن التحرير والتوحيد لم تكن سوى شعارات للتعمية والتضليل.

مع انطلاقة ثورات الربيع العربي، تجاهلت الأنظمة العربية أسباب ما يجري وأبعاده، بل اعتبرتها تهديداً لمستقبلها، وحتى وجودها

ومع تباين الموقف بين الدول الخليجية نفسها، ووصول العلاقات بينها إلى حد القطيعة، فَقَدَ الموقف العربي الرسمي مرتكزاً مهما من مرتكزات قوته، وذلك بعد ما حصل في مصر والعراق وسورية ولبنان واليمن وتونس. أما الدول الأخرى فتبحث عن خلاصها بشتى الوسائل، وتتكوّر على ذاتها، علّها تتجاوز آثار العاصفة القوية التي تهب على سائر الدول العربية. وإذا تأملنا في الخارطة الإقليمية، نرى أن الدور العربي بات في أضعف حالاته، ولم يعد يتجاوز حدود الاستقواء بالآخر مقابل الثروات التي تتعرّض لاستنزاف كبير. وكان من شأن التعويل على تفاهم سعودي – تركي وضع حد لمخاطر المشروع الإيراني التوسعي، الأمر الذي كان سيشكل ضغطاً على الموقف الإسرائيلي نفسه، من أجل القبول بحل الدولتين، والوصول إلى حل واقعي مقبول لدى الجانبين، الإسرائيلي والفلسطيني؛ وهو الأمر المطلوب لتعزيز أسس الأمن والاستقرار في المنطقة كلها.
ولكن التفاهم المشار إليه لم يتم لأسباب عدة، لذلك أصبحت المواجهة غير المباشرة بين الطرفين واقعاً قائماً، الأمر الذي أدى إلى إعادة هيكلية التحالفات والمحاور في المنطقة. ومن الطبيعي، في هذه الحال، أن تتحكم الجهة، أو الجهات، الأقوى بالوضعية وتستفيد منها، فإسرائيل هي المستفيدة الأولى من كل ما حصل. وتركيا تحاول، استناداً إلى ثقلها البشري والاقتصادي، وموقعها الجيوسياسي، أن تستخدم كل أوراقها مع الجميع. في حين أن إيران تدرك أن ما تواجهه من ضغوط أميركية لم تصل إلى حد التهديد الوجودي لنظامها، خصوصا في ظل اضطراب العلاقة الأميركية الأوروبية بخصوص ذلك. وضمن هذه الأجواء، كان الإعلان عن تطبيع العلاقات بين الإمارات وإسرائيل، والإعلان، في الوقت ذاته، عن رغبة سودانية في التطبيع. وربما ستكون هناك إعلانات أخرى في المستقبل القريب.
ما حصل ويحصل عربياً، يؤكد وجود خلل استراتيجي عربي يعالج بردود الأفعال. والأنظار كلها متوجهة نحو السعودية؛ هل ستنضم إلى دول التطبيع، لتستمر عملية التعامل مع القضايا الاستراتيجية بردود أفعال مزاجية آنية؟ أم أنها ستمنح زخماً جديداً لمبادرة ملكها الراحل عبدالله بن عبد العزيز التي تبنّاها العرب؟ تعيش منطقتنا أسوأ مراحلها، فهي تعيش صراعات ضمن كل دولة، وبين مختلف الدول والمحاور الإقليمية والدولية. وما لم يبذل صنّاع القرار جهودا جادّة صناع القرارات، فإن حالة التداعي ستستمر.
ومن هنا، يبقى التفاهم السعودي - التركي الأساس المطلوب الذي من شأنه إعادة التوازن إلى المعادلات المختلة في منطقتنا. وما أعلن عنه أخيرا من توافق ليبي - ليبي عن وقف إطلاق النار، والحديث عن انتخابات قريبة، يؤكد أن أبواب الوصول إلى التفاهمات الصعبة بشأن وضع الحلول لجملة مشكلات المنطقة ما زالت مفتوحة.

8801BA5A-2E79-4DFD-ACA8-06C922BECC8F
8801BA5A-2E79-4DFD-ACA8-06C922BECC8F
عبد الباسط سيدا

كاتب وسياسي سوري، دكتوراه في الفلسفة، تابع دراساته في الآشوريات واللغات السامية في جامعة ابسالا- السويد، له عدد من المؤلفات، يعمل في البحث والتدريس.

عبد الباسط سيدا