من يهمل قضاياه يُمكّن الآخرين من استغلالها

25 يونيو 2024
+ الخط -

لم يعد سرّاً أنّ وجود نظام إيراني منافس لدول المنطقة (تركيا والعراق ودول الخليج...)، ومُختلف معها، كان باستمرار جزءاً من الخطّة الغربية لضبط المعادلات الإقليمية والتحكّم فيها. هذا، بصرف النظر عن الشعارات التي يرفعها النظام المعني راهناً، وبمعزل عن الأذرع العسكرية التي أشرف على تشكيلها، وروّجها إعلامياً، وثبّتها في دولٍ مهمّة في المنطقة، التي لا يمكن التحرّك فيها من دون موافقة إسرائيلية ضمنية على الأقلّ. والدول المعنية، هنا، هي العراق، وسورية، ولبنان، واليمن، بالإضافة إلى الدور الإيراني في قطاع غزّة، ومحاولة الامتداد إلى الضفّة الغربية، وذلك للتمكّن من التحكّم بالورقة الفلسطينية بصورة شبه كاملة.
كان نظام الشاه يعتمد على التلويح بالقوّة العسكرية العارية، وعلى أجهزة مخابراته القويّة، التي كانت معروفة بتوحّشها في ميدان التنكيل بالمعارضين. هذا، إلى جانب بناء العلاقات مع الأنظمة السياسية التي وجد أن مصالحها تتقاطع مع مصالحه، ومع أبعاد دوره في المنطقة. ومع خروج الشاه من إيران، بعدما أدرك أنّ دوره انتهى، وهيمنة نظام الخميني على السلطة (إثر سلسلة طويلة من التصفيات التي لجأ إليها الأخير للتخلّص من المنافسين الواقعيين والمحتملين، وهي تصفياتٌ لم تكن تتناسب أبداً مع السهولة النسبية التي اتسمت بها عملية نقل السلطة بين الأسرة البهلوية، 1925-1979، ونظام الخميني المستمر منذ 1979).

الأدوات الأيديولوجية التي استند إليها النظام الإيراني تمحورت أساساً حول المظلومية الشيعية في المنطقة، و"تحرير القدس"

أما الأدوات الأيديولوجية التي استند إليها النظام الإيراني الإسلاموي بقيادة رجال الدين، فقد تمحورت أساساً حول ورقتَين رئيستَين: المظلومية الشيعية في المنطقة، ماضياً وحاضراً؛ و"تحرير القدس". وملاحظ أنّهما تندرجان في الأساس ضمن مهام الدول العربية ذاتها، التي فيها عدد وازن من المواطنين الشيعة (العراق، ولبنان، ودول الخليج بصورة عامة، وبنسب متفاوتة، واليمن، وسورية إلى حدّ ما). هذا، بينما تشكّل الورقة الفلسطينية القضية المركزية لسائر الدول العربية التي وقفت إلى جانب الفلسطينيين منذ أيام النكبة الكبرى عام 1948، كما ساندت دول الطوق في مختلف الحروب (في 1967 و1973 و1982)، وطرحت، في الوقت ذاته، مبادرات عدّة للسلام، وأكثرها اكتمالاً تلك التي طرحها الأمير- ملك السعودية الراحل عبد الله بن عبد العزيز، والتي تبنّتها قمّة بيروت في عام 2002، ومحورها الأرض مقابل السلام، وتستند في جوهرها إلى قرار مجلس الأمن 242 لعام 1967، بخصوص التوصّل إلى حلّ بشأن النزاع العربي الإسرائيلي، والنزاع الإسرائيلي الفلسطيني على وجه التحديد.
ولكن، وحصيلةً لانشغال كلّ دولة عربية بقضاياها الداخلية، وخلافاتها البينية، جرى تجاهل الاستراتيجية العربية المتكاملة. ورغم كثرة عدد مؤتمرات القمّة البروتوكولية، وتشكيل اللجان المختلفة، لم يكن هناك أيّ حرص جادّ لتنفيذ ما اتفق بشأنه، وقد جاء ذلك متوافقاً ومتناغماً مع توجّهات (وخطط) الحليفَين المُستجدَّين؛ حافظ الأسد ونظام الخميني، في أوائل "انقلاب الخميني" (1979)، وبدايات الحرب العراقية الإيرانية (1980)، فالأسد كان يحرص على امتلاك الورقة الفلسطينية، ليستخدمها في انتزاع دور إقليمي بعد خروج مصر من المعادلات العربية نتيجة توقيعها اتفاقية كامب ديفيد عام 1978، وبعد تورّط خصمه اللدود صدّام حسين في الحرب مع إيران (1980-1988)، ومن ثمّ غزوه الكويت في 1990. وهو الغزو الذي أفقده المصداقية، وتسبّب في إحداث شرخ عميق بينه وبين الدول الخليجية، التي كانت قد وقفت إلى جانبه بقوّة في أثناء حربه مع إيران.
وجاءت الحرب الإسرائيلية المستمرّة منذ نحو تسعة أشهر على غزّة لتؤكّد من جديد أهمّية الورقة الفلسطينية، الأمر الذي قد يُفسّر سرَّ الاستماتة الإيرانية من أجل استغلال هذه الورقة والاستفادة منها. وكان اللافت في هذه اللوحة حدوث تحوّل كبير في مواقف أوساط شعبية واسعة بين العرب، من جهة تعاملهم الإيجابي مع الموقف الإيراني، وذلك بفعل وقوعهم تحت تأثير الدعاية الإيرانية المُضلّلة، التي تسوّق مزاعم عن دعم "أذرع المقاومة"، بقيادة النظام الإيراني، حركة حماس، وغيرها من الفصائل التي تحرص (إيران) على اعتبارها جزءاً ممّا يسمى مشروع "المقاومة"، وهذا في الأساس مشروع إيراني يستخدم أداة للتوسّع والهيمنة.
بناءً على ما تقدّم، يستوجب الوضع العام في الإقليم وجود استراتيجية عربية متكاملة، ولا سيّما من دول مجلس التعاون الخليجي، تنفذ بكلّ جدّية، أمّا الاكتفاء بردود الفعل الإعلامية في غالب الأحيان، فهو أمر لن يكون سوى في مصلحة الإيرانيين، لأنّه سيضع الضعف والترهّل العربيَّين في مواجهة الإصرار الإيراني على الوصول إلى الأهداف بكلّ الأساليب، واستخدام جميع الأوراق. وحتّى تكون الاستراتيجية العربية المقترحة منتجةً، لا بدّ أن تتمحور حول بندَين أساسيَين: يؤكّد الأول ضرورة تحويل قضية الشيعة في المجتمعات العربية إلى واحدة من القضايا المركزية في البرنامج الوطني العام، وقطع الطريق أمام الاستغلال الإيراني لها، ويتحقّق ذلك من خلال دعم المرجعيات الوطنية المعروفة، واعتماد الخطط والإجراءات التي تطمئن المواطنين الشيعة، وتأخذ بالاعتبار واقع التهميش والإهمال الذي فرض عليهم وعلى المناطق ذات الغالبية الشيعية بصورة عامة، بغية إزالة الغبن واحترام الخصوصية، فالشيعيّة في نهاية المطاف نتاج مرحلة لها علاقة بطبيعة الأوضاع وتباين المواقف التي كانت بعد وفاة الرسول، ثم أصبحت ظاهرة عامّة مع انتشار الإسلام.
ولكنّ ما حصل، منذ البدايات وصولاً إلى أيامنا هذه، أنّ "الإسلام الإيراني"، إذا صحّ التعبير، حاول الاستفادة من هذه النقطة، بل جرى تبنّي الشيعيّة مذهباً رسمياً في عهد الدولة الصفوية. وقبل ذلك، كانت هناك توجّهات في هذا المجال في عهد البويهيين، في سياق محاولة تأكيد الهوية الخاصّة في مواجهة تلك التي كان السلاجقة، ومن بعدهم العثمانيون، يسعون من أجل تثبيتها وتعميمها، واعتبارها بمثابة المسوّغ العقائدي/ الأيديولوجي، الذي يمنحهم مشروعية الحكم وإعلان الخلافة، وما نعنيه بذلك، هنا، هو الإسلام السنّي. ولكن، في المقابل، لا بدّ من بذل جهود حثيثة في الوسط الشيعي من أجل ترسيخ الشيعية الوطنية، إذا جاز لنا التعبير، والقطع مع المحاولات التوظيفية في نطاق "المشروع الإيراني" الذي يسعى إلى استغلال ورقة المظلومية الشيعية، ووضعها في خدمة مشاريع توسّعية إقليمية تتخذ من ورقة حماية الشيعة، والدفاع عنهم، والتبشير بالمذهب المُخَلّص، مُجرّد ورقة أيديولوجية تعبوية تخدم المشروع المذكور.
ومن الملاحظ أنّ جهوداً لافتة تقوم بها دول خليجية، ونشطاء ضمن المجتمعات الشيعية في دول المنطقة، ترمي إلى قطع الطريق أمام الاستغلال الإيراني ضمن حدود الإمكان. أمّا الموضوع الفلسطيني، فيحتاج، هو الآخر، إلى استراتيجية يتمّ التوافق عليها بين الدول العربية إلى حدّ كبير، فهو يحتاج إلى موقف عربي موحّد متكامل، لا صفقات أو حالات تطبيع منفردة من دون مقابل. وسيقطع مثل هذا الموقف العربي القويّ، المنشود، الطريق أمام الاستغلال الإيراني للورقة المذكورة، كما سيدفع المسؤولين الإسرائيليين، والقوى الدولية المعنية المؤثّرة، نحو التفكير بخيار احترام القرارات الدولية، وإيجاد المخارج لحلّ سياسي مستدام ضمن إطار حلّ الدولتين. وفي المقابل، لا بدّ من التأكيد على أهمّية وحدة الموقف الفلسطيني وفاعليّته. ولن يستقيم مثل هذا الأمر ما لم تتحرّر "حماس" من الأجندات الإيرانية، وما لم تتخلّص السلطة الفلسطينية من نقاط ضعفها المتمثّلة في الترهّل والفساد، وعدم الاستعداد لإشراك الآخر المختلف بذريعة الأسبقية النضالية، والمشروعية الثورية، والاعتراف العربي والدولي، وغير ذلك من مصطلحاتٍ لم تعد تتناسب مع جملة الظروف المُستجدّة التي شهدتها القضية الفلسطينية وتفاعلت من خلالها مع المعادلات الإقليمية والمتغيّرات الدولية.

الحديث عن هدنة محتملة بين إسرائيل و"حماس"، أمر إيجابي، شرط ألّا يكون مُجرّد خطوة من خطوات التهدئة التخديرية

وذلك كلّه يستوجب قراءة اللوحة السياسية والمواقف المعلنة من الولايات المتّحدة والاتحاد الأوروبي، وبقيّة الدول القادرة على التأثير في الملفّ الفلسطيني، حتّى تأتي الردود مدروسةً منسّقةً ضمن إطار استراتيجية متماسكة، لا أن تكون مُجرّد ردّات فعل مزاجية مبنية على اجتهادات شخصية خاصّة بالحكّام أو مستشاريهم، وهي اجتهادات غالباً ما تكون متناغمة مع النزعة الشعبوية، وتُطرح بغرض الاستهلاك المحلّي من دون الحرص على إدراجها ضمن إطار خطّة عامّة شاملة تُحدَّد أهدافها ووسائلها ومراحلها بصورة بحثية مدروسة بعناية، وبرؤية استراتيجية.
وما يجري اليوم من حديث عن هدنة محتملة بين إسرائيل و"حماس"، بعد أكثر من ثمانية أشهر على الحرب الإسرائيلية على غزّة بعد عملية طوفان الأقصى، أمر إيجابي، شرط ألّا يكون مُجرّد خطوة من خطوات التهدئة التخديرية التي تُتّخذ لتمكين الرئيس الأميركي جو بايدن، المُرشّح لفترة رئاسية مقبلة، من التفرّغ لمهامه التحشيدية والإعلامية لصالح الحزب الديمقراطي، وتركيز الجهود في مواجهة خصمه الرئيس السابق والمرشح الجمهوري للرئاسة دونالد ترامب، وهو المُرشّح الذي يمثّل خصماً غير معهود، لم تشهد السياسة الأميركية مثله قط.
ويبقى السؤال بشأن مدى انعكاسات الوصول إلى مشروع حلّ بين الإسرائيليين والفلسطينيين على الأوضاع السورية، خاصة في أجواء تعدّدية الاحتمالات والسيناريوهات الخاصّة بإمكانية إعادة تظهير بشّار الأسد وتعويمه عبر المؤتمرات والاجتماعات الإقليمية والدولية، فجدوى مثل هذا التظهير ما زالت في سياق التساؤلات والتكهّنات غير المعروفة النتائج. فأن يُسوّق الأسد من جديد بعد كلّ الذي فعله، ويفعله، بالسوريين، منذ أكثر من 13 عاماً، وبعد كلّ ما ألحقه من خسائر بالأمن الاستراتيجي العربي، وبعد كلّ الجرائم التي ارتكبها في لبنان والعراق، ذلك كلّه من الأمور التي لا يمكن أن يقبل بها أيّ عاقل، وحتّى نصف عاقل.

8801BA5A-2E79-4DFD-ACA8-06C922BECC8F
8801BA5A-2E79-4DFD-ACA8-06C922BECC8F
عبد الباسط سيدا

كاتب وسياسي سوري، دكتوراه في الفلسفة، تابع دراساته في الآشوريات واللغات السامية في جامعة ابسالا- السويد، له عدد من المؤلفات، يعمل في البحث والتدريس.

عبد الباسط سيدا